قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

نزول القرآن الكريم

 

الشهيد السيد محمد باقر الحكيم ..

نزول القرآن عن طريق الوحي :

تلقى النبي (ص) القرآن الكريم عن طريق الوحي ونظراً إلى أنه (ص) كان يتلقى الوحي الإلهي من جهة عليا؛ وهي اللّه سبحانه، يقال عادة إن القرآن نزل عليه، للإشارة باستعمال لفظ النزول إلى علو الجهة التي اتصل بها النبي عن طريق الوحي وتلقى عنها القرآن الكريم.

والوحي لغة هو الإعلام في خفاء أي الطريقة الخفية في الإعلام، وقد أطلق هذا اللفظ على الطريقة الخاصة التي يتصل بها اللّه تعالى برسوله نظراً إلى خفائها ودقتها وعدم تمكن الآخرين من الإحساس بها.

ولم يكن الوحي هو الطريقة التي تلقى بها خاتم الأنبياء وحده كلمات اللّه، بل هو الطريقة العامة لاتصال الأنبياء باللّه وتلقيهم للكتب السماوية منه تعالى، كما حدث اللّه بذلك رسوله في قوله عز وجل :إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ.

ويبدو من القرآن الكريم أن الوحي هذا الاتصال الغيبي الخفي بين اللّه وأصفيائه له صور ثلاث :

إحداها: إلقاء المعنى في قلب النبي، أو نفثه في روعه، بصورة يحس بأنه تلقّاه من اللّه تعالى.

 والثانية: تكليم النبي من وراء حجاب كما نادى اللّه موسى من وراء الشجرة (بمعنى أنه سمع الكلام من الشجرة وما حولها). وسمع نداءه.

والثالثة: هي التي متى أُطلِقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدين عادة من لفظة الإيحاء، حين يلقي ملك الوحي المرسل من اللّه إلى نبي من الأنبياء ما كُلّف إلقاءه إليه، سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية، وقد أشير إلى هذه الصور الثلاث في قوله تعالى :وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.

وتدل الروايات على أن الوحي الذي تلقى عن طريقه الرسالة الخاتمة، وآيات القرآن المجيد، كان بتوسيط الملك في كثير من الأحيان ، وبمخاطبة اللّه لعبده ورسوله من دون واسطة في بعض الأحيان، وكان لهذه الصورة من الوحي التي يستمع فيها النبي إلى خطاب اللّه من دون واسطة أثرها الكبير عليه، ففي الحديث أن الإمام الصادق سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبي أكانت عند هبوط جبرئيل؟ فقال: لا وإنما ذلك عند مخاطبة اللّه عز وجل إياه بغير ترجمان وواسطة.

 

التدرج في التنزيل

استمر التنزيل التدريجي للقرآن الكريم طيلة ثلاث وعشرين سنة؛ وهي المدة التي قضاها النبي (ص) في أمته منذ بعثته إلى وفاته،  فقد بعث (ص) لأربعين سنة ومكث في مكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة وظل فيها عشر سنين والقرآن يتعاقب ويتواتر عليه حتى مات وهو في الثالثة والستين من عمره الشريف.

وقد امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة عليه، بإنزاله تدريجاً وكان لهذا التدرج في إنزاله أثر كبير في تحقيق أهدافه وإنجاح الدعوة وبناء ال،مة، كما أنه كان آية من آيات الإعجاز في القرآن الكريم ويتضح كل ذلك في النقاط التالية :

1 - مرت على النبي والدعوة حالات مختلفة جداً خلال ثلاث وعشرين سنة تبعاً لما مرت به الدعوة من محن وقاسته من شدائد وما أحرزته من انتصار وسجلته من تقدم، وهي حالات يتفاعل معها الإنسان الاعتيادي وتنعكس على روحه وأقواله وأفعاله ويتأثر بأسبابها وظروفها والعوامل المؤثرة فيها، ولكن القرآن الذي واكب تلك السنين بمختلف حالاتها، في الضعف والقوة، في العسر واليسر، في لحظات الهزيمة ولحظات الانتصار، والتنزيل تدريجاً خلال تلك الأعوام كان يسير دائماً على خطه الرفيع لم ينعكس عليه أي لون من ألوان الانفعال البشري الذي تثيره تلك الحالات.  وهذا من مظاهر الإعجاز في القرآن التي تبرهن على تنزيله من لدن علي حكيم، ولم يكن القرآن ليحصل على هذا البرهان لولا إنزاله تدريجاً في ظروف مختلفة وأحوال متعددة.

2 - إن القرآن بتنزيله تدريجاً كان إمداداً معنوياً مستمراً للنبي (ص) كما قال اللّه تعالى:وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا.

فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك نزول الملك إليه وتجدد العهد به وتقوية أمله بالنصر واستهانته بما يستجد ويتعاقب من محن ومشاكل، ولهذا نجد أن القرآن ينزل مسلياً للنبي مرة بعد مرة، مهوناً عليه الشدائد كلما وقع في محنة، يأمره تارة بالصبر أمراً صريحاً فيقول :وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا.

وينهاه تارة أخرى عن الحزن كما في قوله: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

ويذكره بسيرة الأنبياء الذين تقدموه من أولي العزم فيقول: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ.

ويخفف عنه أحياناً ويعلمه أن الكافرين لا يجرحون شخصه ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وإنما يعاندون الحق بغياً كما هو شأن الجاحدين في كل عصر كما في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

3 - إن القرآن الكريم ليس كتاباً كسائر الكتب التي تؤلف للتعليم والبحث العلمي، وإنما هو عملية تغيير الإنسان تغييراً شاملاً كاملاً في عقله وروحه وإرادته، وصنع أمة وبناء حضارة، وهذا العمل لا يمكن أن يوجد مرة واحدة، وإنما هو عمل تدريجي بطبيعته، ولهذا كان من الضروري أن ينزل القرآن الكريم تدريجاً ليحكم عليه البناء، وينشئ أساساً بعد أساس، ويجتث جذور الجاهلية ورواسبها بأناة وحكمة.

وعلى أساس هذه الأناة والحكمة في عملية التغيير والبناء، نجد أن الإسلام تدرّج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد أو نفس المجتمع، وقاوم بعضها على مراحل حتى استطاع أن يستأصلها ويجتث جذورها، وقصة تحريم الخمر وتدرج القرآن في الإعلان عنها من أمثلة ذلك، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة بكل أحكامه ومعطياته الجديدة لنفر الناس منه، ولما استطاع أن يحقق الانقلاب العظيم الذي أنجزه في التاريخ.

٤- إن الرسالة الإسلامية كانت تواجه الشبهات والاتهامات والمواقف السياسية والأطروحات الثقافية والإثارات والأسئلة المختلفة من قِبَل المشركين. وكان النبي صلى الله عليه وآله بحاجة إلى أن يواجه كل ذلك بالموقف والتفسير المناسب، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بشكل تدريجي، لأن طبيعة هذه المواقف والنشاطات المعادية هي طبيعة تدريجية، وتحتاج إلى معالجة ميدانية مستمرة. ولعله المراد من قوله تعالى:وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.

من كتاب علوم القرآن.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة