قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

نموذج من تفسير القرآن بالقرآن

 

السيد محمد حسين الطباطبائي .. 

قال الله تعالى : ( الله خالق كل شيء ). 
تكرر مضمون هذه الآية الكريمة في أربعة مواضع من القرآن ، وبحسب هذا المضمون جميع المخلوقات الموجودة في الكون هي من خلق الله تعالى وصنعه. 
ويجب أن لا تغرب عنا هذه النكتة أن في مئات من الآيات صدق موضوع العلية والمعلولية ، ونسب فيها فعل كل فاعل إليه ، واعتبرت الأفعال الاختيارية من أفعال الإنسان نفسه ، وخصت الآثار بالمؤثرات كالإحراق بالنار والنبات إلى الأرض والمطر إلى السماء وغيرها. 
والنتيجة أن صانع كل شيء وفاعله ينسب فعله وصنعه إليه ، إلا أن مفيض الوجود والموجد الحقيقي للفعل هو الله تعالى ليس غيره. 
ومن هنا نعرف التعميم الذي نجده في قوله تعالى ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) ، فلو انضمت هذه الآية إلى الآية السابقة لرأينا الجمال والخلقة قرينين ، فكل ما وجد في عالم المخلوقات من خلق كان موصوفاً بالجمال. 
ويجب أيضا أن لا تغرب عنا هذه النكتة أن الآيات القرآنية تعترف بالخير مقابل الشر والنفع مقابل الضرر والحسن مقابل السيء والجمال مقابل القبح ، وتعتبر كثيرًا من الأفعال والأقوال والأفكار حسنة أو سيئة ، ولكن هذه المساوىء والقبائح والشرور تبدو واضحة إذا ما قيست بما يقابلها ، فوجدوها نسبي وليس بنفسي. 
مثلاً الحية والعقرب مؤذيان ، لكن بالنسبة إلى الإنسان والحيوانات التي تتألم من سمهما لا بالنسبة إلى الحجر والتراب والشيء المر والرائحة الكريهة منفوران ، لكن بالنسبة إلى ذائقة الإنسان وشامته لا بالنسبة إلى كل الحيوانات. وبعض الأعمال والأقوال تبدو شاذة ، لكن بالنسبة إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان لا بالنسبة إلى كل البيئات. 
نعم لو لم نلاحظ النسبة والقياس وننظر إلى الأشياء بنظرة مطلقة نراها في منتهى الجمال ونرى الوجود أخاذا يلفت النظر ولا يمكن وصف حسنه وجماله ، لأن الوصف نفسه من الخلق الجميل الذي يحتاج بدوره إلى وصف.
والآية المذكورة أعلاه تريد صرف الأنظار عن وجوه الجمال والقبح النسبية والقياسية والاعتبارية لتوجهها إلى الجمال المطلق وتجهز الأفهام لإدراك الكلي والعموم الذي هو الأهم. 
إذا ما أدركنا النقاط المشروحة في مئات من الآيات القرآنية التي تصف عالم الوجود ـ بكل جزء جزء منه وبمجموعة مجموعة منه وبمختلف أنظمته الكلية والجزئية ـ لنرى أنه أحسن دليل على التوحيد وأعظم مرشد إلى معرفة الله تعالى وكمال قدرته. 
لو تأملنا في الآيتين المذكورتين سابقاً وأمعنا النظر فيما سبق من الكلام ، نعلم أن هذا الجمال المحير الذي ملأ عالم الوجود كله إنما هو لمعة من الجمال الإلهي ندركه نحن بواسطة الآيات السماوية والأرضية ، وكل جزء من العالم كوة ننظر منها إلى القدرة اللامتناهية لنعرف أن ليس لهذه الأجزاء شيء من القدرة إلا ما أفيض عليها. 
ولهذا نرى في آيات قرآنية كثيرة نسبة أنواع الجمال والكمال إلى الله تعالى ، فتقول : ( هو الحي لا إله الا هو ).
و (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). 
و (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). 
و ( هو العليم القدير ). 
و ( هو السميع البصير ). 
و ( الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ). 
فبمقتضى هذه الآيات كل جمال وكمال نراه في عالم الوجود هو في الحقيقة من الله تعالى وليس لغيره إلا المجاز والعارية. 
وتأكيداً لما مضى ذكره يوضح القرآن الكريم بأسلوب آخر أن الجمال والكمال المودع في مخلوقات العالم إنما هو محدود متناهي ، وهو عند الله تعالى غير محدود وليس له نهاية ، قال عز من قائل : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ).
وقال : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ).
عندما يتقبل الإنسان هذه الحقيقة القرآنية يرى نفسه أمام الجمال والكمال اللامتناهي ، يحيط به من كل جانب وليس فيه خللاً أصلاً ، ينسى كل جمال وكمال في العالم ، وحتى نفسه التي هي من تلك الآيات ينساها وينجذب إلى خالق الجمال والكمال قال تعالى : ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) 
عند هذا يسلم العبد إرادته واستقلاله إلى الله تعالى كما هو من شؤون الحب والعبودية الخالصة ، فينضوي تحت لواء الحق ويدخل في ولايته ، كما يقول عز وجل ( والله ولي المؤمنين ) ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ). 
فيجد حينئذ روحاً أخرى ويحيا حياة جديدة ويشرق في قلبه نور الحقيقة ، فتتفتح له طرق السعادة ليشق مسيرته الكريمة بين المجتمع قال تعالى ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) ، وقال : ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ).
وفي آية أخرى يزمع تعالى إلى كيفية حصول هذا النور فيقول ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وأمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ). 
وقد فسر الإيمان بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في آية اخرى بالتسليم له واتباعه ، فقال ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ).

ووضح الاتباع في آية أخرى ، فقال ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ). 
وأوضح من هذا نجد معنى الاتباع في آية أخرى أيضًا حيث يقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ). 
فبمقتضى هذه الآية الكريمة البرنامج الكامل الإسلامي هو المتطلبات التي يحتاج إليها من يعيش في الكون ، ونعني بها القوانين والشرائع التي تدل عليها الفطرة الإنسانية ، الحياة غير المعقدة التي يحياها الإنسان المستقيم ، كما يقول تعالى في موضع آخر ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ). 
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة الإنسانية السعيدة والحياة الفطرية النزيهة ، وهو بعكس جميع الكتب والمناهج الأخرى يجمع بين البرامج الدينية والبرامج الحياتية ، فله رأيه الخاص في الفرد والمجتمع وله كلمته في كل الشؤون ، ودستوره ينظر إلى الحقائق الثابتة ( معرفة الله تعالى ـ النظرة الشاملة إلى الكون ) بأعمق النظرات. 
ان القرآن يصف اولياء الله تعالى وعباده المخلصين بكثير من النعوت والخواص الصورية والمعنوية التي يتحلون بها نتيجة لايمانهم الخالص ويقينهم الثابت ، ويؤسفنا ان هذا الفصل القصير لا يسع لسردها بصورة مفصلة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة