علمٌ وفكر

مقدِّماتُ الاجتهاد



الإمام الخميني قدّس سرّه ..

موضوعُ جوازِ العمل على رأيه [الكلام هنا عمّن لديه قوّة الاستنباط] -بحيث يكون مُثاباً أو معذوراً في العمل به عقلاً وشرعاً- هو تحصيلُ الحُكمِ الشرعيِّ المستنبَط بالطُّرُق المتعارَفة لدى أصحاب الفنّ، أو تحصيلُ العذر كذلك، وهو لا يحصلُ إلّا بتحصيلِ مقدّمات الاجتهاد، وهي كثيرة:
منها: العلمُ بفنون العلوم العربيّة بمقدارٍ يحتاج إليه في فَهم الكتاب والسُّنّة، فكثيراً ما يقع المحصِّلُ في خلاف الواقع، لأجلِ القصور في فهم اللّغة وخصوصيّات كلام العرب لدى المحاورات، فلا بدّ له من التّدبُّر في محاورات أهلِ اللّسان، وتحصيلِ علم اللّغة وسائر العلوم العربيّة بالمقدار المحتَاج إليه.
ومنها: الأُنسُ بالمحاورات العرفيّة وفَهْمُ الموضوعات العرفيّة، ممّا جرت محاورةُ الكِتاب والسنّة على طِبقها، والاحتراز عن الخَلط بين دقائق العلوم والعقليّات الرّقيقة وبين المعاني العرفيّة العاديّة، فإنّه كثيراً ما يقعُ الخطأُ لأجلِه، كما يتّفقُ كثيراً لبعضِ المشتَغلين بدقائق العلوم -حتّى أصول الفقه بالمعنى الرّائج في أعصارنا- الخَلْطُ بين المعاني العرفيّة السوقيّة الرّائجة بين أهل المحاورة، المبنيّ عليها الكتاب والسنّة، والدّقائق الخارجة عن فَهم العُرف. بل قد يقعُ الخلطُ لبعضِهم بين الاصطلاحاتِ الرّائجة في العلوم الفلسفيّة أو الأدقّ منها، وبين المعاني العرفيّة، في خلاف الواقع لأجله.
ومنها: تعلّمُ المنطق بمقدار تشخيصِ الأقيسة، وترتيب الحدود، وتنظيم الأشكال من الاقترانيات وغيرها، وتمييز عقيمِها من غيرها، والمباحث الرّائجة منه في نوع المحاورات، لئلّا يقَع في الخطأ، لأجل إهمال بعضِ قواعدِه. وأمّا تفاصيلُ قواعدِه ودقائقِه غيرِ الرّائجة في لسانِ أهل المحاورة، فليست لازمة، ولا يحتاجُ إليها في الاستنباط.
ومنها: -وهو من المهمّات- العلمُ بمهمّات مسائلِ أصول الفقه، ممّا هي دخيلةٌ في فهم الأحكام الشرعيّة. وأمّا المسائل التي لا ثمرةَ لها، أو لا يحتاجُ في تثمير الثّمرة منها إلى تلك التّدقيقات والتّفاصيل المتداولة، فالأَولى تَرْكُ التّعرُّض لها، أو تقصيرُ مباحثِها والاشتغالُ بما هو أهمّ وأثمر. فمَن أنكرَ دخالةَ علمِ الأصول في استنباطِ الأحكام، فقد أفرط، ضرورةَ تقوُّمِ استنباطِ كثيرٍ من الأحكام بإتقانِ مسائله، وبدونه يتعذّرُ الاستنباط في هذا الزّمان، وقياسُ زمانِ أصحابِ الأئمّة بزماننا مع الفارق من جهات.
وظَنّي أنّ تشديدَ نكير بعضِ أصحابنا الإخباريّين على الأصوليّين في تدوين الأصول، وتفرُّع الأحكام عليها، إنّما نشأَ من ملاحظة بعضِ مباحث كُتب الأصول، ممّا هي شبيهةٌ في كيفيّة الاستدلال والنّقض والإبرام بكُتب العامّة، فظنّوا أنّ مباني استنباطِهم الأحكامَ الشرعيّة أيضاً شبيهةٌ بهم، من استعمالِ القياس والاستحسان والظّنون، مع أنّ المطِّلعَ على طريقتِهم في استنباطها، يرى أنّهم لم يتعدّوا عن الكتاب والسُّنّة والإجماع الرّاجع إلى كشف الدّليل المعتبَر، لا المصطلح بين العامّة.
نعم، ربّما يوجَد في بعض كُتب الأعاظم لبعضِ الفروع المستنبَطة من الأخبار، استدلالاتٌ شبيهةٌ باستدلالاتِهم، لمصالحَ منظورةٍ في تلك الأزمنة، وهذا لا يوجبُ الطّعنَ على أساطين الدِّين وقوّام المَذهب. والإنصاف: أنّ إنكارَهم في جانبِ الإفراط، كما أنّ كثرةَ اشتغال بعض طلَبة الأصول والنّظر إليه استقلالاً، وتوهُّم أنّه علمٌ برأسِه، وتحصيلَه كمالُ النّفس، وصرْف العمرِ في المباحث الغير المحتاج إليها في الفقه لهذا التّوهُّم، في طرف التّفريط، والعذر بأنّ الاشتغال بتلك المباحث يُوجب تشحيذَ الذِّهن والأُنس بدقائق الفنّ، غيرُ وجيه. فالعاقلُ الضّنينُ بنقدِ عمرِه، لا بدّ [له] من تَرْك صَرْفِه في ما لا يعني، وبَذْلِ جهدِه في ما هو محتاجٌ إليه في معاشِه ومعادِه، وهو نفسُ مسائل علم الفقه الذي هو قانونُ المعاش والمَعاد، وطريق الوصولِ إلى قُرب الرّبِّ بعد العلم بالمعارف. فطالبُ العلم والسّعادة لا بدّ وأن يشتغلَ بعلمِ الأصول بمقدارٍ محتاجٍ إليه -وهو ما يتوقّفُ عليه الاستنباط - ويترك فضولَ مباحثِه أو يقلِّله، وصرْف الهمِّ والوقتِ في مباحثِ الفقه، خصوصاً في ما يحتاج إليه في عملِه ليلاً ونهاراً.
ومنها: عِلمُ الرّجال بمقدارٍ يحتاجُ إليه في تشخيص الرّوايات، ولو بالمراجعة إلى الكُتب المعدّةِ له حالَ الاستنباط. وما قيل: من عدم الاحتياج إليه، لقطعيّةِ صدور ما في الكُتب الأربعة، أو شهادة مصنِّفيها بصحّةِ جميعِها، أو غير ذلك، كما ترى.

ومنها: -وهو الأهمُّ الألزم- معرفةُ الكتاب والسُّنّة، ممّا يحتاج إليه في الاستنباط، ولو بالرّجوع إليهما حالَ الاستنباط، والفحص عن معانيهما لغةً وعُرفاً، وعن معارضاتِهما والقرائن الصّارفة بقدْر الإمكان والوُسْع، وعدم [التقصير] فيه، والرّجوع إلى شأن نزول الآيات وكيفيّة استدلال الأئمّة عليهم السلام بها. والمهمّ للطّالب المستنبِط الأنسُ بالأخبارِ الصّادرةِ عن أهل البيت، فإنّها رَحى العلم، وعليها يدورُ الاجتهاد. والأنسُ بلسانِهم وكيفيّة محاوراتِهم ومخاطباتِهم، من أهمّ الأمور للمحصّل.
فعَن (معاني الأخبار) بسنَده عن داود بن فَرقد، قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: «أنتم أفقهُ النّاسِ إذا عرَفتم معاني كلامِنا، إنّ الكلمةَ لَتَنْصَرِفُ على وجوه، فلو شاءَ إنسانٌ لَصَرَفَ كلامَه كيفَ شاء، ولا يكذِب».
وعن (العيون) بإسناده عن الرّضا عليه السلام قال: «مَن ردّ متشابهَ القرآن إلى محكمِه فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم». ثمّ قال عليه السلام: «إنّ في أخبارِنا محكَماً كَمُحكَم القرآن، ومتَشابهاً كمتَشابه القرآن، فَرُدّوا متشابهَها إلى مُحكمِها، ولا تتّبعوا متشابهَها دونَ محكمِها فتَضلّوا».
ومنها: تكريرُ تفريعِ الفروع على الأصول، حتّى تحصلَ له قوّة الاستنباط وتكمل فيه، فإنّ الاجتهادَ من العلوم العمليّة، وللعملِ فيه دخالةٌ تامّة، كما لا يخفى.
ومنها: الفحصُ الكاملُ عن كلمات القوم، خصوصاً قُدماؤهم الذين دَأْبُهم الفتوى بمتونِ الأخبار، كشَيخ الطّائفة في بعض مصنّفاته، والصَّدوقَين، ومَن يحذو حَذْوهم، ويقربُ عصرُه [من] أعصارِهم، لئلّا يقعَ في خلاف الشّهرة القديمة التي فيها -في بعض الموارد- مناطُ الإجماع. ولا بدّ للطّالب [من] الاعتناء بكلماتِ أمثالِهم، وبطريقتِهم في الفقه، وطَرْزِ استنباطهم، فإنّهم أساطينُ الفنّ، مع قُرْبِهم بزمانِ الأئمّة عليهم السلام، وكَوْن كثيرٍ من الأصول لديهم ممّا هي مفقودةٌ في الأعصار المتأخِّرة، حتّى زمن المحقّق، والعلّامة. [الحِلّيَّين]
وكذا الفحصُ عن فتاوى العامّة، [ولا] سيّما في موردِ تعارضِ الأخبار، فإنّه المحتاجُ إليه في علاج التّعارض، بل الفحصُ عن أخبارهم، فإنّه ربّما يُعينه في فهم الأحكام.
فإذا استنبطَ حكماً شرعيّاً بعد الجُهد الكامل وبَذْلِ الوُسع في ما تقدّم، يجوزُ له العملُ بما استنبَط، ويكونُ معذوراً لو فُرض تخلُّفه عن الواقع. ثمّ اعلم: أنّ موضوع جواز الإفتاء أيضاً عينُ ما ذُكِر، فإنّه إذا اجتهدَ واستنبطَ الحكمَ الواقعيّ أو الظّاهريّ، فكما يجوزُ له العملُ به، يجوزُ له الإفتاءُ به، وهذا واضح.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة