علمٌ وفكر

الأخلاق العلميّة (2)

 

محاولة لإعادة استحضار القيم الأخلاقيَّة في النَّشاط المعرفي
الشيخ حيدر حبّ الله .. 

3 ـ الهدف الأخلاقي للبحث العلمي
غرق علم الكلام الإسلامي في النزعة الجدالية التي استنزفته، فيما سعت الفلسفة ـ وفِّقت أم لم توفَّق ـ إلى تفادي هذه النزعة بطرحها البرهانية الفلسفية أساساً للنشاط أو الفعالية، وهذا الفارق ما بين الفلسفة والكلام هو بعينه مشكلة من مشكلات البحث العلمي، إننا نجد أحياناً أن بعض الباحثين لا مشروع لديه سوى النقد، سواء كان نقداً لأشخاص أم لتاريخ... وهو يعمل، ليلًا نهاراً، مخلصاً وجادَّاً، في نشاط النقد هذا، وهدفه تفنيد هذا الشخص أو ذاك التاريخ، وهذا النشاط في حدّ نفسه مفيد جداً، لأن العقلية النقّادة عقلية ناضجة بالأساس ولا ينبغي الحيلولة دون وجود هذه العقلية في المجتمع الثقافي، لأنها تمثل إحدى ضمانات التوازن المعرفي، لكن المشكلة التي تحصل تكمن في تحوّل هذه العقلية إلى مشروع شامل لا يقف إلى جنبه مشروع آخر، فالفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط صاحب ـ ربما ـ أشهر مدرسة نقدية في تاريخ الفلسفة لم يكتفِ بنقد العقل ومن ثمّ أبقى الفكر في اللاشيء أو في الفراغ، وإنما سعى ـ إلى جانب ذلك ـ إلى إيجاد البديل ولو وفاقاً لوجهة نظره التي يحق لمن بعده تأييده عليها أو رفضه، أن تملكُنا عقلية نقدية فهذا خطر، أما أن نملك عقلية نقدية فهذا عين الصواب بل والضرورة، إن بعض الباحثين المعاصرين لا يستهدف من نقده للتراث غير تفنيده، وإذا ما فتّشت في كتبه ونتاجاته عن بديل ما ربما يصعب أن تجد شيئاً من هذا القبيل، وهذه هي نقطة الخطأ، أن لا يعتاد الباحث ـ أي باحث ـ على مجرد أن ينقد فحسب... أن ينقد كل جديد أو فكرة جديدة من دون أن تكون له وظيفة أخرى عدا تتبّع كل ما يقال من جانب فلان أو جماعة أو مذهب... بغية نقده، أو أن ينقد القديم كل قديم بحيث لا همّ له سوى مواصلة الجهد لتنحية هذه المقولة أو تلك... إلى حد وصول الحال إلى أن يقرأ هؤلاء أي كتاب أو مقالة بعقلية يسميها الدكتور نصر حامد أبو زيد، في كتابه دوائر الخوف، «استراتيجية البحث عن العفريت» (1).
إن الهدف الصحيح لحركة البحث العلمي يجب أن يكون الحقيقة، فعندما يشاهد الباحث فكرةً خاطئة عليه أن ينقدها، لكن أن لا يبقى في نقدها.. بل عليه أن يشير إلى الأمام لوضع حل أو صيغة أو بديل آخر لها كما هي عادة الكثيرين من علماء أصول الفقه الشيعي؛ حيث يتعرّضون للآراء واحداً بعد الآخر ثم ينقدونها، وفي النهاية يقومون بتبنِّي رأي معين والدفاع عنه، أو ابتكار رأي جديد والبرهنة عليه، لا أنهم يبقون دائماً في إطار نقد الآراء التي لا يؤمنون بها.
إن هدف الباحث معرفة الحقيقة واتباعها، وهو أمرٌ قد يجعله يمر تارةً على نقد وأخرى على تدعيم وثالثة على تأسيس ورابعة على تأييد وموافقة، وهكذا من دون أن يبقي نفسه في أسار النقد، ويصنع من ذاته شخصية نقَّادة، ونقّادة فقط، سواء لهذا الطرف أم لذاك، لا فرق.
إن النقد ـ من الناحية العلمية ـ أسهل من إعادة الإنتاج والبناء، والشخصيات النقَّادة، والنقَّادة فقط، كثيراً ما تكون شخصيات خائفة ومحجمة، والسبب هو أن هذه الشخصيات تظن أن جميع الناس تفكر وفاقاً لطريقتها في النقد، فلا تتصور أو تترقب إذا ما قدّمت شيئاً سوى النقد في عقول الآخرين لأفكارها وإنجازاتها، لهذا فهي تشعر دائماً بحالة من الإحباط والقلق وربما الهزيمة، وهذه تلك الشخصية نفسها تصبح في ما بعد ـ لو تصدّت لتقديم شيء ثقافي ـ أحد الذين يمارسون الاستبداد والقمع...، لأن الاستبداد أفضل وسيلة لتهدئتها نفسياً.
إن شيوع روح النقد غير المتزاوج مع إعادة الإنتاج، لا يقدّم سوى المزيد من مظاهر الإحباط واليأس والنكوص والردّة إلخ...، سيما لدى العناصر الشابة المثقّفة، وهذا ما يرشدنا إلى مدى الالتحام ما بين هذه الظاهرة الثقافية من جهة ومجمل الحراك الاجتماعي والسلوكي من جهة أخرى.


4 ـ أهليَّة البحث العلمي
موضوع أهلية البحث العلمي موضوع طويل ومتشابك إلى حد معين، لكننا سنشير إلى بعض نقاطه باختصار.
إن هناك مشكلة ثنائية الطرف تعاني منها بعض الساحات الثقافية، وهي مشكلة أهليَّة البحث، فمن جهة هناك حالة من تدخل الذين قد لا تكون لهم أهلية البحث العلمي (خصوصاً الديني) في مباحث الفكر الديني، وهناك من جهة أخرى تشدّدٌ زائدٌ عن الحد من جانب آخر، ويمثِّل الجانب الأول تيار التجديد وكذلك شريحة من الجامعيين المتديِّنين المثقفين وشريحة محدودة من طلاب العلوم الدينية في الحوزات العلمية، أما الجانب الثاني فيمثله التيار الرسمي الديني.

يقول الاتجاه الأوّل: إن التيار التَّقليدي في المعرفة الدينية، المتمثل بالمعاهد والحوزات الدينية الشِّيعية والسنِّية، أخفق في تقديم مشروع فكري ناضج ومتكامل، ولهذا فمن حقِّنا نقده ومن ثم السعي لصنع شيء بديل من هذا القبيل، وقد نما هذا التيار وازداد نموّه في الآونة الأخيرة حتى نجح في صنع روّاد ومفكرين أساسيين ومهمِّين انسحبوا من السلك الديني الرسمي، أو كانوا من البداية قريبين منه...
وفي الحقيقة هناك مسوِّغات ـ قسمٌ منها مقبول ـ أسهمت في تكوُّن هذا التيار الرافض لما يسمى باحتكار المعرفة الدينية من جانب شريحة من الناس، قد تكون أسس تفكيرها خاطئة، مهما بذلت جهوداً في البحث والتنقيب، لأن الخلل المنهجي، أو ما يسمّى اليوم الخلل في العقل نفسه، لا يمكن إصلاحه بترميم فوقاني للفكر، مهما طالت مدّة البحث ومهما أمضى الإنسان عمره في الدراسة والتحقيق.
طبعاً، نحن لسنا في صدد الحديث عن وجهة النظر هذه، لأن كلامنا هنا يدور عن خصوصية من خصوصيات هذا التيار، ألا وهي أن بعض روّاده وبعض المشتغلين فيه لم يهضموا جيداً أصول الفكر الديني وموضوعاته، واتسمت نتاجاتهم بشيء من التسرّع، فكيف يحقّ لشخص أن يلغي كل نتاج علم أصول الفقه على صعيد مباحث الألفاظ (حتى لو كان رأيه صحيحاً) ما لم يكن إنساناً هاضماً خبيراً بهذا العلم حتى يقف على مناهجه وأساليبه في البحث وعلى تياراته ومدارسه إلخ...؟! إن مجرّد قراءة كتاب أو كتابين لا يسوِّغ عادةً ـ على المستوى الأخلاقي العلمي وعلى المستوى المعرفي أيضاً ـ التصدّي لاتخاذ مواقف كبيرة من هذا القبيل، إن هذه اللاأكاديمية في البحث العلمي، أو هذه الارتجالية في استخلاص النتائج، تجر على الجسم الثقافي العام الكثير من النتائج الضارّة، كيف يمكن ويحق لشخص أن يحكم على الفلسفة الإسلامية سلباً أو إيجاباً لمجرّد اطلاعه على نتاج العلامة الطباطبائي فقط أو عمانوئيل كانط وكارل پوپر وميشيل فوكو إلخ..؟! وإنما نقول ذلك لأن النقد الذي يثيره هذا التيار نقد منهجي تأسيسي بنيوي يمس العقل، ولا يمكن لنقد كهذا أن يتجاهل قراءة تاريخية وشاملة... فهذا الدكتور محمد عابد الجابري ـ وافقناه أم عارضناه ـ قرأ العقل العربي أولًا في مجلدات ثم نقده، ولم يكن يحق له أن ينقد هذا العقل من دون أن يدرسه ماراً بالمدارس الفقهية والكلامية والفلسفية وغيرها، ولهذا يمكن القول: إنَّ إشاعة ثقافة التدخّل من جانب بعضهم في قضايا الفكر الديني، وهو ممن لا اختصاص له فيها.. إن إشاعة هذه الثقافة أمرٌ غير سليم على ما يبدو، لكن هذا الأمر شيء وممارسة قمع واحتقار لمن ينقد شيء آخر، فنحن نتكلم في البعدين المعرفي والأخلاقي لا في البعد القانوني والحقوقي، إذ يحق لأي إنسان أن يستفهم ويسأل وينقد، لكننا هنا نطلب منه أن لا يستخلص نتائج من دون شيء من الخبرة والدراية حفاظاً على النمو السليم للمعرفة.
أما الاتجاه الثاني فيقول: إن المعرفة الدينية وعلوم الدين تحتاج إلى تخصص وجهد غير عادي لفهمها وإدراك خباياها، لذلك لا يحق لأي شخصٍ أن يتجرأ ويقحم نفسه في هذه العلوم من دون أن يكون قد طوى المراحل المتعددة التي تؤهله لهذا الأمر. ويضيف هؤلاء: إن السير، ليس وفق المنهج المعهود في المدارس الدينية، أفضى، ولا يزال، إلى مخاطر عديدة، وقد شاهدنا بأعيننا النتائج السلبية لهذا الأمر.
وهذا المقدار مما تثيره المعاهد الدينية الرسمية يمكن الموافقة عليه، بيد أن القضية على هذا الصعيد أخذت بالتصاعد إلى حد غير مسوّغ على ما يبدو، ذلك أن هذه الحالة أفضت من جهة إلى قناعة بنوع من الاحتكار في عالم الفكر والمعرفة، وأخذ الدارسون الرسميون ـ طبعاً نحن نتكلم عن بعضهم بالتأكيد، والكلام ليس شاملًا أبداً ـ يتصوّرون أن كل من يكتب أو يتكلم في مجال المعرفة الدينية من دون أن يكون متحرِّكاً في إطار السلك الرسمي فهو معتدٍ ـ علمياً ـ ويتدخل في ما لا يعنيه وأنه متأثر بالأفكار الغربية، أو أنه لا أصالة في فكره إلخ... وساد اعتقاد بلا مشروعية التفكير، أيُّ تفكير لا ينطلق من الخطوط والرسوم التقليديَّة لتسلب بعد ذلك القيمة عنه والاحترام.
وربما تطوّر الأمر، لدى بعضهم، إلى مستوى أعلى حين يضع اللباس الديني جزءاً مكوِّناً للمشروعية البحثية، بحيث لا يحق لمن لا يضع هذا اللباس أن يتكلم باسم الدين والتدين مهما بلغ من العلم بل والإيمان... أو أنه لا يحق له ـ حتى لو كان ملبَّساً بلباس رجل الدين ـ البتّ في شيء والتصدّي له ما لم يصل إلى سنّ معينة بحيث يمكن عدّه مخضرماً حينئذٍ.

لكن هذا الواقع ـ كالواقع السابق ـ يواجه مشكلات لا سيما مشكلات تسويغ، فمن أين لنا أن نجزم بعدم أحقيّة أحد للبحث الديني إلا إذا فكَّر وفاقاً للطَّريقة التي نفكّر نحن بها؟ وكيف عرفنا أن مجرّد صحة طريقتنا تخوِّلنا سلب الشرعية المعرفية عن طريقة غيرنا؟ لا نريد الحديث عن الحق القانوني، وإنما نتكلم عن الحق المعرفي الذي ينتج إمكانية احترام الطرف الآخر معرفياً، فما لم نكن نقرّ بحق الطرف الآخر في النظر والمعرفة بعيداً عن لباسه أو انتمائه الطبقي فمن الصعب احترام قواعد العمليَّة المعرفية حينئذٍ، لأن الأساس الذي نعتمد عليه في عملية التحييد هذه يمكن إذا انسجمنا معه حتى النهاية أن يوسع من نطاقها لتسيطر في ما بعد، فئوية رهيبة ضمن دوائر في غاية الضيق.
والمشكلة الأساس تتمثَّل في أن هذا الموضوع بالخصوص يخلق نوعاً من الطبقية الفكرية، وهي طبقية تتعامل مع الآخر من منطلق فوقي دائماً تماهياً مع مفهومي الحق والباطل وأمثالهما، والحديث عن هذه الطبقية وعن مسوِّغاتها العقلية والدينية من جهة وسلبياتها من جهة أخرى يحتاج إلى مجال أوسع، ويتصل ـ في ما يتّصل ـ بموضوعة التعددية المعرفية بالدرجة الأولى.

ـــــــــــــ
(1)دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1999م، ص 13.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة