قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

منطق فهم القرآن الكريم (1)


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ..

ربما يكون موضوع (منطق فهم القرآن) غير معروف للبعض بصورة كافية، على الرغم من أن هذا التعبير يشبه إلى حد ما التعبير الذي نستعمله في مباحث الأمور العقلية. إنّ الانتفاع من العلوم العقلية والقضايا البرهانية يرتبط بمنطق خاص، أي أنه يرتبط بالأصول والقواعد التي يبنى الاستدلال على أساسها.
في كلّ العلوم هناك قواعد أيضاً من اللازم أن يكون الاستنباط على أساسها، وعلى هذا فإنّ هناك من يرى أن أصول الفقه بالنسبة إلى علم الفقه تشمل حالة (منطق الفقه) إذا أمكن اعتبار أصول الفقه هي منطق الفقه، فربّما أن تسمية أصول وقواعد خاصة تحت عنوان منطق فهم القرآن سوف لن يكون مستغرباً; إلى هذا الحد لا سيّما أن هناك حاجة إلى أصول وقواعد خاصة من أجل فهم القرآن الكريم وتفسير آياته، إذاً وبعد القبول بضرورة وجود منطق فهم القرآن فإنّه يمكن تفريعه إلى فرعين أساسين: الأوّل هو الفرضيات الموجودة سابقاً والأصول الموضوعة لكلّ قائم على تفسير فهم القرآن.
أما الفرع الثاني فهي القواعد الخاصة التي يمكن على أساسها التعامل مع الآيات والانتفاع منها.

من البديهي أنّ كلّ فرع من فروع العلوم المختلفة بحاجة إلى أسلوب وطريقة خاصة لكي نتمكن وطبقاً لهذا الأسلوب أن نتابع الأهداف التي هي غاية ذلك العلم، وعلى هذا فمن الطبيعي تماماً أن القرآن يحتاج إلى أسلوب خاص أيضاً، ومع الأسف فلم يُنجز عمل جدّي في هذا المجال. وعلى أية حال فقد كانت هناك حاجة إلى ذلك، وما زالت لأن مَن يريد تفسير القرآن عليه أن يعرف أيّةِ أصول وقواعد يمكنه القيام بذلك على أساسها، وكيف يمكن أن يستخدم القواعد الموجودة، والأمر الجدير بالاهتمام هو أن هذه الحاجة موجودة دائماً غير أنه وبسبب القضايا والشبهات الجديدة مثل بحث تعدد القراءات ومباحث التأويل والتفسير فإنّ الحاجة إلى طرح مثل هذه البحوث أصبح أكثر إلحاحاً، إذاً فالسبب في طرح هذا الموضوع أصبح واضحاً; وهو أنه علاوة إلى الحاجة الدائمة إليه، فإن الاختلاط بالثقافة الغربية والشبهات التي وصلت إلى مجتمعاتنا ومحافلنا العلمية أدّت إلى أن تكون هذه الحاجة إكثر إحساساً.


إنّ الدراسة التي نطرحها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو تلك الأصول والمبادىء والفرضيات المسبقة التي نعتقد بها في تفسير القرآن.
القسم الثاني: يتكون من القواعد الخاصة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا في تفسير القرآن.
القسم الثالث: هو الشبهات الموجودة في هذا المجال ووجوب الردّ عليها.


الأصل الأول: الذي نضعه نصب أعيننا على أساس أنّه فرضيات مسبقة
للتفسير هو أن القرآن كلام الله الحكيم وبلا شك فإننا نأخذ ذلك على أساس أنه أصل موضوعي وليس على أساس كونه أصلا بديهياً متفقاً عليه; ذلك لأنه قد يكون هناك من يشك في وجود الله أصلًا، وحتى لو سلّم بوجوده جلّ وعلا فقد يكون لديه شك بأن يكون هذا الكلام منسوباً إلى الله أو قولا ثابتاً منه سبحانه. وخلاصة الأمر أنه ليس واثقاً أن القرآن هو كلام الله. إنّ هذه القضية مطروحة بصورة جدية بين مختلف المفكرين، وليست قضية جديدة وقد طرحت وربّما قبل عشرين سنة بكلام الله، بل هو كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) وأرادوا أن يستفيدوا حتى من القرآن نفسه لإثبات هذه القضية.
إنّنا في هذه الدراسة نعتبر أن قضية كون القرآن هو كلام الله على أساس أنها أصل موضوعي، وإذا كان هناك بحث في هذا الموضوع فهو خارج إطار هذه الدراسة.

الأصل الثاني: الذي نأخذه في هذه الدراسة هو أن الله جلّ جلاله لديه هدف من نزول القرآن; وعليه يجب فهم الآيات لتحقيق هذا الهدف، أما كون هذا الموضوع يرتبط بالكلام أو بالفلسفة أكثر فإنّه مرتبط بالكلام أكثر. والجدير بالاهتمام أنّ شكل الدليل يختلف في هذه الموارد; ولذا فإني استند إلى كلمة الحكمة أكثر: فإنّ مقتضى الحكمة الإلهية هو إكمال نقص معرفة الإنسان في مجال معرفة طريقة حياته وذلك بإرسال الأنبياء وإنزال الكتب وإذا لم يفعل ذلك سبحانه، أي أنه لم يرسل رسولا وينزل كتاباً سماوياً، فإن هذا مناقض للهدف الإلهي ومعارض للحكمة.

وعلى أساس هذا الموضوع الذي هو أمر ثابت في علم الإلهيات والكلام (أي برهان النبوة الأصلي) فيتخذ الأصل الثاني شكله; وهو أن الله جلّ وعلا يريد هدايتنا بواسطة الكلام، وأن الأمور التي لا نتمكن أساساً من فهمها بواسطة العقل من جهة ونحتاج إليها من جهة ثانية، فإن هذه الحاجة الأصلية لتشخيص طريق السعادة يجب أن نفهمها عن طريق الوحي والقرآن، ولا شك أنّ هذا فهم من الله لأنه جلّ وعلا وحتى في الأشياء التي نفمهما بواسطة العقل قد تفضّل بها علينا، وأكّد عليها عن طريق الوحي فقد جاء في القرآن مثلًا (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان) إنّ هذه الآية وحتى لو لم تكن موجودة في القرآن فإننا نفهم أيضاً أن العدل والإحسان أمران جيدان، أي أنه على الرغم من أنّ لهذا العمل (العدل والإحسان) دليلًا عقلياً فإن القرآن قد أكّد عليه أيضاً، وعلى كل حال فإن أصل حاجتنا الأولية والضرورية للقرآن والوحي السماوي تنبع من أننا لا نستطيع تشخيص سير سعادتنا وشقائنا بصورة قاطعة، ولذا فإنّ الوحي يساعد العقل ويكمل نقصه.

الأصل الثالث: هو أنّ الله الحكيم المُنزِلِ لهذا الكتاب لهدايتنا قد تحدّث بلسان العقلاء، وتكلّم طبقاً لأصول الحوار العقلي، ولقد أصبحت هذه القضية قضية مهمة، لأنه على مدى أكثر من 1400 سنة من تاريخ الإسلام فإنه لم يطرح بين المفسرين وأصحاب الرأي وعلماء الدين فيما إذا كان كلام الدين هو كلام الواقع أم كلام الرمز والأسطورة، إنّ هذه المسائلة لم تطرح عندنا في أي وقت من الأوقات، ولكنها طرحت في أوربا خصوصاً بعد عصر التنوير حول الكتاب المقدّس (التوراة والإنجيل) وفيما إذا كان ما في هذا الكتب هو حال بيان الحقيقة والواقع أم لا؟ وعلى أيّة حال فقد طرحت هذه القضية التي تقول: إن كلمات التفاهم مختلفة، وإن هناك قسماً من الكلمات تقصد الواقع فقط، وتريد طرح واقع نفس الشيء في ذهن المخاطب والمستمع، إلاّ أنه توجد كلمات أخرى ليست في مجال عرض الواقع مثل لغة القصة والشعر والأسطورة أو على الأخصّ ما ورد في الأشعار العرفانية التي لها لسانها الخاص، وفيها حديث عن الخمر والطرب... الخ وعلى الأقل فإن هناك قسماً من هذه الأشعار تصرخ بأنّ مقصدها من الخمر ليس الخمر المعروف بل هو رمز استعمل لبيان موضوع آخر. وهكذا فإنّه بصورة عامة توجد أساليب مختلفة في مجال التفاهم.

إن من أراد إنقاذ المسيحية واليهودية من هجوم المفكرين الذين اعترضوا بأن المواضيع الموجودة في التوراة والإنجيل تعارض كلا من العقل والعلم، وأنّه لا أهمية للكتاب المقدس ولا يمكن قبوله ككتاب سماوي، ففي مجال الرد على هذا الاعتراض أسسوا النظرية التي تقول: إن كلام الكتاب المقدس ليس الكلام الذي يستعمله العقلاء لكشف الحقيقة في محاوراتهم وإن كلام الكتاب المقدس يماثل القصص التي يكون مغزاها هو محط الاهتمام، فمثلاً عندما نقرأ كتاب كليلة ودمنة فلن يتبادر إلى ذهننا أن هذا هو حديث الأسد والثعلب حقيقة، وعلى هذا الأساس وضعت هذه النظرية للردّ على الشبهات التي طرحت حول الكتاب المقدس، وهي شبهات يبدو بطلانها واضحاً، مثل نسبة شرب الخمر للأنبياء، وادّعاء الصراع بين الله جلّ وعلا وبين يعقوب (عليه السلام) وسقوطه سبحانه على الأرض على يد يعقوب، وقالوا: إن هذه الكلمات لا تبيّن الواقع، بل هي كلمات رمزية بحاجة إلى تفسير خاص لفهمها، فماذا نقول نحن حول القرآن؟ هل نقول إن آياته نوع من الأساطير وإن كلماتها رمزية أو إنّها كلمات واقعية، استخدمت كما يستخدمها العقلاء في توضيح أهدافهم؟.

وعلى هذا فإنّ الأصل الثالث في هذا البحث هو أن كلام القرآن هو عين الواقع، وليس معنى الواقعية عدم وجود الكناية والاستعارة والمجاز. أولًا تحوي المحاورات العقلية مثل هذه الموارد؟ إنّ المحاورات العقلية ومن أجل إفهام الحقائق وبيان الواقع نستفيد من الصناعات الأدبية، ولذا فإنّه يمكن استعمال الإمكان البلاغي في هذه الحوارات; ذلك لأن البلاغة هي توضيح الكلام باستعمال الصناعة الأدبية بجعل الكلام أوضح، وتمكّن المتكلم من تبيين أهدافه بصورة أوضح، ولكن هذا لا يعني أنّ هذه اللغة هي لغة أسطورية; ذلك لأنه في الحالة التي نريد بها توضيح الحقائق فإننا نفعل ذلك بواسطة التعبيرات المجازية، ولكن بسبب وجود القرينة فإن المتلقّي يدرك أن هذا التعبير هو تعبير مجازي، وإنّنا لا ننكر وجود المجازات والاستعارات والكنايات في القرآن الكريم غير أن هذا لا يعني أن أسلوب القرآن ليس واقعياً، وأن كل آياته وكلماته هي رمز وإشارة.

الأصل الرابع: وهو متفرع من الأصل السابق فهو: أن الله جلّ وعلا ومن أجل افهام الأهداف التي تحويها هذه الآيات الكريمة فقد استعمل نفس أسلوب العقلاء المستخدم في التفاهم، أي نفس الصناعات التي يستعملونها وبعبارة أخرى لم يستخدم أسلوباً خاصاً مخالفاً لأسلوب العقلاء، طبعاً هناك حالات خاصة وأساليب لطيفة جداً استخدمها القرآن، ولا يستطيع عموم الناس إدراكها، ولكن هذا لا يعني أن أسلوب بيان القرآن هو إظهار الحقائق دون سابقة، بحيث إنّنا نحتاج من أجل فهمها أن نسأل من شخص آخر، ما هو أسلوب فهم القرآن؟ وما هي أصوله وقواعده؟ بل على العكس فإننا نستخدم نفس ذلك الأسلوب العقلي، ولكن كما أن إدراك المواضيع بين العقلاء له درجات فإنه كلّما اطلع المفسر على حقائق القرآن أكثر وتوغل في فهم كلماته وأصبح مستوى فهمه أعمق فإنه من الممكن أن يتوصل إلى نتائج مستخدماً موارد دقيقة ولطيفة من القرآن الكريم، ولكن هذا لا يعني أن لغة القرآن هي غير لغة العقلاء التي يستعملونها في معانيهم وحواراتهم.


الأصل الخامس: وهو ما يبرز من كلّ الأصول السابقة، وهو أن المتكلم الذي هو الله جلّ وعلا أراد للناس ان يستفيدوا من هذا الكلام بنفس هذه الطريقة التي يستعملها الناس لبيان أهدافهم، أو على الأقل نستطيع فهم قسم من أهداف القرآن التي يستطيع كلّ من يستعمل الأسلوب العقلي، ويراعي أصول الحوار أن يتوصل إليها.

إنّ هذا الأصل الخامس يرد على آراء بعض الفرق الشافعية والتي لها خلفية أيضاً عند الشيعة.

إنّ بعض منحرفي الذوق يتصورون أن فهم القرآن وتفسيره خاص للمعصومين (عليهم السلام) وليس لأحد الحقّ في الاستفادة من تفسير غير المعصومين للقرآن أو على الأقل عدم حجية تفسير وفهم هذا المفسّر للقرآن الكريم، واستندوا إلى روايات معروفة منقولة عن ائمة أهل البيت لإثبات دعواهم مثل: ﴿إنّما يعرف القرآن من خوطب به﴾(1) وهذه الآراء غير صحيحة، فعموم المفسرين وعلماؤنا الكبار ومنذ فترة الأئمة الأطهار وحتى الآن كالشيخ الطوسي والطبرسي والعلاّمة الطباطبائي وبقية المفسرين الكبار لا يعتبرون أمر تفسير القرآن والتفاعل معه مجازاً فحسب بل يعتبرونه عبادة أيضاً بل وحتى يعتبروه واجباً في بعض الأحيان. وعلى أيّة حال ففي مقابل من يرى أنه لا حقّ لدينا وحدنا في تفسير القرآن وإذا أردنا نسبة شيء إلى الله يجب أن يكون على أساس رواية المعصوم بصورة حتمية، نقول: إنه يوجد أصل ممكن القول على أساسه أن كلّ من يراعي أصول المحاورة الدقيقة يمكنه إلى حدّ ما فهم القرآن حتى وإن كان هذا يعني أنه لا يستطيع إدراك وفهم كل حقائقه، طبعاً إن هذا الموضوع هو مبحث خاص ويستدعي الدراسة وذكر الأدلة، غير أننا تطرقنا للموضوع على أساس أنه أصل البحث دون الخوض في بحث الأدلة عليه ولكنّنا نشير إلى واحد من أفضل الأدلة عليه ألا وهو: أنه في مجال كيفية تشخيص الروايات الصحيحة (الواردة عن المعصومين) فأننا نعرضها على القرآن، أي أنها إذا كانت مطابقة للقرآن فهي صحيحة والعكس صحيح.
ـــــــــــــــــ
1- بحارالأنوار 24: 238، عن الروضة من الكافي: 312، ذيل الحديث 485.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة