مقالات

العقل والتجربة طاقة الحياة


 الشيخ حسين المصطفى ..

صادق القرآن الكريم من جهات مختلفة، وبآيات عديدة لا مجال لحصرها، على حجية العقل.
ومن التعابير العجيبة للقرآن قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}..
فالمراد بـ(الصم والبكم) هم (الأشخاص الذين لا يريدون أن يستمعوا الحقيقة)، أو أنهم يسمعونها ولا يعترفون بألسنتهم.
فالأذن التي تعجز عن سماع الحقائق وتستعد فقط لسماع المهملات والأراجيف هي أذن صماء من وجهة نظر القرآن.
واللسان الذي يستخدم فقط في بث الأراجيف، يعتبر لساناً أبكم حسب رأي القرآن.
وكلاهما {لاَ يَعْقِلُونَ}.
ويضيف لنا الإمام علي (ع) من درر نهجه ما نقف على حقيقة مهمة، وببيان منطقي رائع، حيث يقول: "العقل والشهوة ضدّان، ومؤيّد العقل العلم، ومزيّن الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينهما. فأيّهما قهر كانت في جانبه".
إنَّ النفس الإنسانية تتنازع عليها القوة في اتجاهين مختلفين، ولا يمكن لها أن تتكوَّن وتقوى إلا من خلال تلك الحالة القوة العقلية؛ وذلك بالتعلم والمعرفة والتجربة أكثر..
وتعبير الإمام علي  بـ"مؤيد للعقل ومزيّن للشهوة لا يخلو من فائدة كبيرة؛ لماذا؟
لأنَّ (العقل) يتعرف على الأمور بشكل تلقائي..
وأما (الشهوة) فتحتاج إلى من يزين لها ذلك العمل، فتتوق وتشتهي عمله..
إنّ نتيجة غلبة العقل هو ذلك الموقف الرائع من النبي يوسف (ع): {مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
إذن:
(العقل) هو رائد معركة الإنسان ضد نفسه..
و(العلم والمعرفة) سلاح رئيسي في هذه المعركة..
ولكل من طرفي المعركة -(العقل والهوى)- جنود وأسلحة..
فهما جيشان: جيش خير وجيش شر يتصارعان على أرض نفس الإنسان.
وهنا يبدأ الصراع القوي في حركة الإرادة التي قد تقوى فتأخذ جانب (العقل)، وقد تضعف فتأخذ جانب (الشهوة).
بمعنى أنّ هناك طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة واجتنابه الألم: (العقل والشهوة) (الخير والشر) (الموضوعية والذاتية)، أو (الأوامر والنواهي الشرعية).
فالعقل طاقة وهبها الخالق للإنسان، كي يتبصَّر في أعماق كينونته وتجاربه، يقول علي (ع): "العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب".. والغريزة ليست شيئاً يمكن لنا أن نحدده، بل هي صفة حيوية أو هي الاستعداد للقيام بنشاط معين؛ لأنَّ كلَّ غرائزنا، سواء كانت الغرائز التي تمتد في حياتنا الحسية، أو الغرائز التي تتمثل في حياتنا الفكرية أو الإنسانية، هي التي تموِّن الحياة، وبفقدانها يصيب الحياة بالنقص والخلل.
وهذه الغريزة "تزيد بالعلم والتجارب"؛ فليس أمام العقل حاجز..
والله سبحانه جعل العقل حراً، بحيث يتحمل مسؤولياته في هذه الحرية، ومسؤولياته في ما يفكِّر به..
والتجربة هي حركة تنتج فكراً.. والعلم يوحي إلى التجربة أن تتحرك أمام علامات الاستفهام، وأمام الثغرات.
هذه هي قيمة الإسلام من خلال كلام الله سبحانه وتعالى، حيث إنَّ الإسلام كشف للإنسان أنَّ مصدر المعرفة ينطلق من دائرتين: (دائرة التأمل النظري)، و(دائرة التجربة). والتجربة إنّما تتسع وتمتد من خلال التأمل، والتأمل إنّما ينفتح من خلال ما تطرحه التجربة أمامه من أسئلة ومن علامات الاستفهام.
ولذا لم يذكر القرآن الكريم القصص المتنوعة ليستمتع بحكاياتها، بل ليتفكر ويتدبر فيها؛ قال تعالى:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. أي: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} على هؤلاء الذين تدعوهم إلى الحق، ليعيشوا تجارب الآخرين من خلال القصة، لا لتملأ لديهم أوقات الفراغ. بل {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، فيقارنون بين حياتهم وحياة أولئك الذين عاشوا في أحداث تلك القصص، ويعرفون النتائج السلبية في حياتهم المستقبلية إذا ساروا على النهج الذي سار عليه أولئك، من خلال دراستهم للعاقبة السيّئة التي انتهى إليها أمرهم في الماضي.
فالحياة تجربة، وعلى الإنسان أن يأخذ بأسباب التجربة، ولا يحاول أن يطرح الأحكام بشكل تجريدي؛ لأنَّ التجربة هي التي تعطي الإنسان واقعية الإمكان والاستحالة، وكما قال ابن سينا: "كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان"..
فالتجربة هي التي تعطي الإنسان الصورة الحقيقية عن الواقع عندما تستكمل كل العناصر التي تؤدي به إلى الصواب، شريطة أن لا يتحرك في العمل من موقع الجهل والغفلة، بل من موقع الخبرة.
ونحن نعرف أنّ كل ما اكتشفه الإنسان في هذا العالم إنما اكتشفه بالتجربة. وربما تقودك التجربة إلى النتيجة بالصدفة، وهذا ما يفرض علينا أن لا نيأس من التجربة؛ لأنَّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرِّب الواحدة بعد الألف، ولعلنا في ما نقرأ من كثير من حقائق الدواء وحقائق الداء، أنّ العلماء قد يقضون سنين كثيرة يجرّبون ويفشلون، ويجربون ويفشلون، وربما ينجحون في نهاية المطاف إما بالصدفة، وإما بسلامة التجربة.

والرسول (ص) يقول: "المؤمن لا يلدغ من حجر واحد مرتين" حيث يقرر أسبقية التجربة على المعرفة، لأنَّ الخطأ الذي يقع في تجربة لم تحدث من قبل لا ينفي الإيمان، ولا ينفي العلم، ولكن تكرار الخطأ الذي حدث سابقاً في عمل لاحق هو الذي ينفي العلم، وينفي الاستفادة من التجربة السابقة، أي أنّ هذه التجربة لم تصر علماً أو ذكراً، وقد حدثت في حين غفلة، ولكن ينبغي ألاّ يدفع ثمن التجربة مرتين، وهذا هو العلم والإيمان.
ومن هنا يمكننا أن نقول: العلم له أولوية باعتبار، والعمل له أولوية باعتبار آخر، والبحث في العلم، وإن كان متأخراً في الولادة، إلا أنّ له الأولوية للاستفادة من التجارب، وهكذا فالعلم له السلطان في الاستفادة من التجارب السابقة، والعمل له الأولوية والسلطان والحجة والبرهان في ولادة العلوم والمعارف الجديدة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة