قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

دستورُ الحياة الأَفضل (1)


السيد محمد حسين الطباطبائي

والقوانين الإسلاميّة التي تتضمّن سلسلة من المعارف الاعتقاديّة، والأصول الأخلاقيّة والعمليّة، نجد منابعها الأصيلة في آيات القرآن العظيم.
قال تعالى: ﴿إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم..﴾ الإسراء:9.
وقال تعالى: ﴿..ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء..﴾ النحل:89.

إنّ تدقيق النظر في النقاط التالية، يوضح لنا مدى اشتمال القرآن الكريم على المناهج الحياتيّة التي لابدّ من توفّرها للإنسان:
1 ـ لا يبتغي الإنسان من حياته إلّا السّعادة والهناء، والوصول إلى الأماني التي يتمنّاها. والذي نراه في حالات شاذّة، أنّ أناساً يُديرون وجوههم عن السّعادة والرَّغد بما يفعلون بأنفسهم، كالانتحار، وجرح الأبدان، وبتر الأعضاء، وبعض الرياضات الشاقّة غير المشروعة، بحجّة الإعراض عن الدّنيا، وما أشبه هذه الأشياء، ممّا يُسبّب حرمان النفس عن كثير من وسائل الرَّفاه والعيش الهانىء. هكذا إنسان مبتلىً بعُقد نفسيّة، يرى -نتيجة لتأصّلها في نفسه- أنّ السّعادة تتحقّق فيما يقوم به من الأعمال المضادّة للسّعادة.
فمثلاً، يُصيب البعض أنواعاً من متاعب الحياة ولا يتمكّن من حملها، فيلجأ إلى الانتحار لأنّه يرى الراحة في الموت، أو يتزهّد بعضهم ويجرّب أنواع الرّياضات البدنيّة، ويُحرِّم على نفسه اللّذائذ المادّية، لأنّه يرى السّعادة في هكذا حياة نكدة.
إذاً، الجهد الذي يبذله الإنسان ليس إلّا لدرك تلك السعادة المنشودة التي يسعى في تحقيقها ونيلها.

2 ـ الأعمال التي تصدر من الإنسان لا تكون إلّا في إطار خاصّ من الأنظمة والقوانين.
ذلك، لأنّ الإنسان الذي له نصيب من العقل، لا يعمل شيئاً إلّا بعد أن يُريده، فعمله صادر عن إرداة نفسيّة يعلمُها هو ولا تخفى عليه. ومن جهة أخرى، إنّما يعمل ما يعمل لأجل نفسه، ونعني: أنّه يحسّ بضرورات حياتية لابدّ من توفّرها، فيعمل ليوفّر تلك الضرورات على نفسه. فبَين أعماله كلّها ربطٌ وثيق يربط بعضها ببعض.
إنّ أيّ شخص في أعماله الفرديّة يُشبه حكومة كاملة لها قوانينها، وسُننها، وآدابها، والقوى الفعّالة في تلك الحكومة عليها أن تقيس أعمالها بتلك القوانين أوّلاً ثم تعمل.
والأعمال الاجتماعيّة الجارية في مجتمع ما تُشبه الأعمال الفرديّة، فتحكُم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تَوافق عليها أكثر أفراد ذلك المجتمع، وإلّا فسوف تسود الفوضى في أقرب وقت، وتنفصم عُراهم الاجتماعيّة.
فإذاً، لا بدّ للإنسان من هدف خاصّ في أفعاله الفرديّة والاجتماعيّة، وللوصول إلى ذلك الهدف المنشود لا محيص من تطبيق أعماله بقوانين وآداب خاصّة موضوعة من قِبَل دين أو مجتمع أو غيرهما.
والقرآن الكريم نفسه يؤيّد هذه النظرية حيث يقول: ﴿ولكلّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات..﴾ البقرة:148.
والدِّين في عُرف القرآن يُطلق على الآداب والقوانين بصورة عامّة، فإنّ المؤمنين والكافرين -وحتى المنكِرين لله تعالى- لا يخلون من دين ما، لأنّ كلّ إنسان يتبع قوانين خاصّة في أعماله، أكانت تلك القوانين مستندة إلى نبيّ ووَحي، أو موضوعة من قِبل شخص أو جماعة ما، يقول تعالى في أعداء الدين: ﴿الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً..﴾ الأعراف:45.
ووجه دلالة الآية الكريمة على ما قلناه، أنّ جملة «سبيل الله» تُطلق في عُرف القرآن على الدِّين، والآية تدلّ على أنّ الكافرين -بما فيهم المُنكِرون لله تعالى- يُحرّفون دين الله (دين الفطرة)، فالآداب التي يتّبعونها في حياتهم هي دينُهم.

3 ـ إنّ أحسن وأثبت الآداب التي يليق بالإنسان متابعتها، هي الآداب التي توحيها إليه الفطرة السّليمة، لا النّابعة من العواطف والاندفاعات الفرديّة أو الاجتماعيّة.
ولو أمعنّا النظر في كلّ جزء من أجزاء الكون، نرى أنّ له هدفاً خاصّاً، وُجهتُه من أوّل يومِ خِلقته تحقيقُ ذلك الهدف من أقرب الطُّرق وأحسنها، وهو يشتمل على ما لابدّ منه لتحقيق هدفه من الوسائل والآلات. هذا شأن كلّ مخلوق في الكون، ذي روح أم غير ذي روح.
مثلاً حبّة الحنطة، فهي من أوّل يومٍ تُوضع في بطن الأرض، تسير في طريق التكامل، فتَخضرّ وتنمو حتى تكون لها سنابل تحمل في طيّاتها حبّات كثيرة من الحنطة، وهي مجهّزة بوسائل خاصّة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لا بدّ من توفّرها في سَيْرها التّكاملي، فتجذب إلى نفسها من أجزاء الأرض والهواء وغيرهما بنسَب معلومة، فتَنشقّ عنها الأرض وتخضرّ وتنمو يوماً فيوم، وتتحوّل من شكل إلى آخر، حتّى يكون لها سنابل في كلّ سنبلة حبّات، وحينئذٍ تكون الحبّة الأولى المزروعة في الأرض قد وصلت إلى هدفها المنشود، وكمالها الذي كانت تسير نحوه.

إنّ جميع ما نُشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطّردة، وليس لدينا دليل ثابت على أنّ الإنسان شاذّ عنها في مسيرته الطبيعيّة إلى هدفه الذي جُهّز بآلالات اللّازمة للوصول إليه. بل الأجهزة المُودعة فيه أحسن دليل على أنّه مثل بقيّة ما في الكون، له هدف خاصّ يضمن سعادته، وقد توفّرت فيه الوسائل للوصول إليه.
وعليه، فخِلقة الإنسان -بل خلقة الكون الذي ليس الإنسان إلّا جُزءاً منه- تسوقه إلى السّعادة الحقيقيّة، وهي توحي إليه أهمّ وأحسن وأثبت القوانين التي تضمن سعادته.
يقول الله تعالى: ﴿..ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى﴾ طه:50.
ويقول: ﴿الذي خلق فسوى * والذي قدّر فهدى﴾ الأعلى:2-3.
ويقول: ﴿ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها﴾ الشمس:7-10.
ويقول: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم..﴾ الروم:30.
ويقول: ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام..﴾ آل عمران:19.
ويقول: ﴿ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه..﴾ آل عمران:85.

ومحصّل هذه الآيات وآيات أخرى بهذا المضمون، أنّ الله تعالى يسوق كلّ واحد من مخلوقاته -بما فيهم الإنسان- إلى الهدف والسّعادة الأسمى التي خَلَقهم لأجلها، والطّريقة الصّحيحة للإنسان هي التي تدعوه إليه خِلقته الخاصّة. فيجب أن يتقيّد في أعماله بقوانين فرديّة واجتماعيّة نابعة من فِطرته السّليمة، ولا يتّبع مكتوفَ اليد هواه وعواطفَه، وما تُمليه عليه ميولُه وشهواته. ومقتضى الدِّين الفطري (الطّبيعي) أن لا يُهمل الإنسان الأجهزة المُودَعة في وجوده، بل يستعمل كلّ واحد منها في حدوده وفي ما وُضع له، لتتعادل القوى الكامنة في ذاته، ولا تغلب قوّة على قوّة.
وبالتّالي، يجب أن يحكم على الإنسان العقلُ السّليم البعيد عن الشَّوائب، لا مطاليب النّفس النّابعة من العواطف المخالفة للعقل، كما يجب أن يكون الحاكم على المجتمع هو الحقّ وما هو الصّالح له حقيقةً، لا أن يكون الحاكمُ إنساناً قويّاً مستبدّاً يتَّبع هواه وشهواته، ولا الأكثريّة التي تُخالف الحقَّ والمصالح العامّة.
ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجةً أخرى، هي: أنّ تشريع الأحكام، ووضْع القوانين راجعٌ إلى الله تعالى وحده، وليس يحقّ لأحدٍ أن يُشرّع القوانين، ويضع المقرّرات، ويتحكّم في الشُّؤون، لأنّ الآداب والقوانين التي تُفيد الإنسان في حياته العمليّة هي المستوحاة من خلقته الطبيعيّة، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو إليها العِلل والعوامل الدّاخليّة والخارجيّة الكامنة في خِلقته. وهذا يعني أنّ الله تعالى يريدها، ومعنى «يريدها» أنّه عزّ شأنه أودع في الإنسان العِلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب.
نعم، الإرادة تنقسم إلى قسمين: منها ما يُجبر على إيجاد الشّيء، كالحوادث الطبيعيّة التي تقع كلّ يوم، وهي المسمّاة بـ «الإرادة التّكوينيّة»، ومنها ما يقتضي إيجاد الشّيء من طريق الاختيار لا الجبر، كالأكل، والشّرب، وأمثالهما، وهي التي تعارفوا على تسميتها بـ «الإرادة التّشريعيّة».

يقول تعالى: ﴿..إنْ الحكم إلّا لله..﴾ يوسف:40.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة