علمٌ وفكر

الفيزياء والعقل: إشكالية العلاقة بين المجرَّد والمشخَّص (4)


د. جاسم العلوي

ليستْ استحالة التمثيل الحاسوبي للنشاط الإدراكي للإنسان -حسب مُعتقد روجر- تقتضي تأكيد الرؤية العقلية للإدراك (الفرضية د). فـ”الفرضية د” ترى في النشاط الإدراكي للإنسان خارج قدرة العلوم. يبني روجر رفضه لـ”الفرضية د” على إيمانه بأن الوعي (الإدراك) الإنساني مُرتبط بالنشاط الفيزيائي للدماغ؛ وبالتالي لا ينبغي النظر خارج المنهج العلمي لتفسير التعقل لدى الإنسان. إنَّ روجر يعتمد في رفضه لـ”الفرضية د” رغم إيمانه باستحالة التمثيل الحاسوبي للإدراك على نظرية قوية في المنطق الرياضي تُسمَّى “نظرية جودل” وهي للعالم التشكي kurt Godel.
يُخصِّص روجر في كتابه “ظلال العقل” مساحة كبيرة من الكتاب للحديث عن نظرية جودل. تتعلق مناقشة جودل بأشياء معينة عن الأعداد، وما يخبرنا به جودل من أنه لا توجد طريقة حسابية لتمييز الأعداد الطبيعية، فإنَّ أي طفل يعرف هذه الأعداد، وكل ما علينا عمله هو أن نوضح للأطفال الأعداد المختلفة للأشياء، كأنْ نقول للأطفال مثلًا: شجرة، شجرتين…إلخ، وبعد فترة يستخلص هؤلاء الأطفال مفهوم الأعداد الطبيعية. فنحن لا نُقدِّم للأطفال قواعد حسابية، كل ما نفعله هو تمكين الأطفال من معرفة ماهية الأعداد الطبيعية. وبعد أن يستعرض مُناقشة جودل، يصل روجر إلى النتيجة التي تؤكد الرؤية الأفلاطونية للأشياء، والتي ترى أن المفاهيم والحقائق الرياضية تسكُن في عالم خاص بها، لا زمان له ولا مكان فيزيائي لها. فالطفل قادرٌ على إقامة نوع معين من الربط مع العالم الأفلاطوني للرياضيات. فهذه الأعداد الطبيعية توجَد في موضع ما من العالم الأفلاطوني إلى أن نستطيع الاتصال به من خلال مقدرتنا على الوعي بالأشياء، وإذا كُنا أجهزة حواسيب بلا عقل، فلن نمتلك تلك المقدرة على الاتصال بهذا العالم الذي يمنح الإنسان تفردًا خاصًّا بالوعي.

إنَّ روجر -فيما أظن- يصل إلى نتيجة تتناقض مع فرضيته التي تزعم أنه لا يُمكن تفسير الوعي خارج نطاق العلوم والرياضيات. وما العالم الأفلاطوني مما تستطيع العلوم أو الرياضيات أن تدلل على وجوده. وبهذا نصل إلى أن الرؤية العقلية للإدراك ضرورة فرضتها النتيجة ذاتها التي توصل إليها روجر بنفسه. إذن؛ بقِي علينا أنْ نُقارب الإشكالية على ضوء الفلسفة.. فما هو الإدراك في التصوُّر الفلسفي؟
وبعد أن أعادتنا مناقشة روجر إلى الرؤية العقلية بعد أن أخفق -فيما أظن- في تفسير الوعي الإنساني علميًّا، فلن يبقى إلا أنْ نتعرَّف على الإدراك بمنهجية العقل وحده؛ إذ هو الخيار المتبقي حصرًا.
عدَّ الفلاسفة مِمَّن سبق صدر الدين الشيرازي الصلة بين العلم والنفس كتلك الصلة التي بين اللون والجسم. فالصلة التي تربط اللون بالجسم عرضية؛ فاللون عارض على الجسم، وكذلك العلوم تعرض على النفوس تمامًا كعروض الألوان على الأجسام. لكن تصل بنا هذه الرؤية إلى أن النفوس البشرية جواهر متشابهة، فليس ثمَّة فارق بين نفوس الأنبياء والعلماء ونفوس المفسدين والجهلة، وإنما تفترق هذه النفوس بما تصطبغ به من علوم ومعارف، والتي هي أعراض طارئة عليها. والنتيجة أن النفس جوهر مستقل عن علومها وإدراكها. لم يرتضِ صدر الدين هذه العلاقة بين العلم والنفوس فقد قاده تأمله العميق في السر الذي يكمُن في أبدية العذاب، وديمومته وشقاء الإنسان الأبدي، إلا أن الصلة التي تربط العلم والنفس ليست عرضية على الإطلاق. وانتهى إلى أن هذه الصلة التي تربط العلم بالنفس هي نحو من الصلة التي تجعل من العلم والنفس حقيقة واحدة. فبعد أن أثبت صدر الدين في محله تجرد النفس وتجرد العلم؛ فالعلم والنفوس جواهر مُجردة عن الزمان والمكان. أقام الصلة بينهما بحيث تغدو النفس بالعلم عَيْن معلومها، فكما أن النبتة الصغيرة تنمو إلى أن تصبح شجرة، فكذلك النفس الإنسانية تتسع وتنمو بالعلم الذي تتلقاه. فعندما تعلم النفس شيئًا، تصير عَيْن معلومها؛ فالعاقل يتَّحد مع معقوله اتحادًا حقيقيًّا؛ بحيث تكون النفس عين معقولها.

لكن: ماذا لو أدرك الإنسان شيئًا، ثم ثبُت له خطأ هذا الإدراك، فما الذي يحدث للنفس في مثل هذه الحالة؟ لقد انتهى صدر الدين إلى أن العلم نحو من الوجود المتحقق بالفعل؛ بحيث لا يقبل التبدل والتحول.. ندعو القارئ الكريم أن يُجرِّب بنفسه، ويفحص العلم عبر المثال التالي: ضَعْ في ذهنك فكرة ما، ولنفترضها كالتالي “الوجود والعدم يجتمعان، والآن ندعوه لأنْ يقوم بتغيير الفكرة المارة، ووضع أخرى بدلًا عنها، وهي “الوجود والعدم لا يجتمعان”، ولنسأله الآن: هل الفكرة الأولى لا تزال قائمة في الذهن، أم أنَّ يد التغيير قد امتدت إليها، فأحالتها إلى الثانية؟ الإجابة: كلا! لم نتمكَّن من تغيير الأولى، بل وضعنا بجوارها أخرى. وغاية ما فعلناه هو أننا اعتقدنا بصحة الثانية، بعد أن كُنا نعتقد بصحة الأولى. لكنَّنا نعجز حقًّا عن إزالة الأولى عن صفحة الفكر، وإجراء تغيير عليها”

إذا كَان بإلامكان أن نحقق معرفيًّا للنظريات العلمية والفلسفية، فإن نظرية جودل في الإدراك الحاسوبي تسبق اتحاد العاقل والمعقول؛ لأنَّ نظرية جودل -فيما أعتقد- أفضت إلى حصر الإدراك فلسفيًّا، ويجب أن نقر بأن الرؤية الصدرائية للإدراك واحدة من أعظم الرؤى في الفكر الفلسفي.

الإشكالية على ضوء القرآن الكريم
يتحدَّث القرآن عن أهمية العقل بشكل لافت، ويجعل منه وسيلة الوصول إلى الحق. والإنسان في القرآن الكريم هو محور الوجود الكوني؛ فكل ما في الكون مُسخَّر للإنسان، والإنسان قادر على تعقله وإدراكه.. يقول الله تعالى: “وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون” (النحل:12). ويقول تعالى: “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (البقرة:164).
وآيات كثيرة تتحدَّث عن أن هذا الكون خُلق وهُيئ من أجل الإنسان، وأن الإنسان مدعُو لأن يفكر في هذا الكون؛ فيكون ذلك هاديًا له للمسير في الطريق الموصل إلى النبع الذي تدفَّقت منه الحياة، وكان وراء تعقلها حكمة الله. ويتحدَّث القرآن بوضوح عن الهدف الحقيقي من وراء خلق السموات والأرض؛ وهو أن يتعرف الإنسان على الله القدير العليم.. يقول تعالى: “الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما” (الطلاق:12).

الإشكالية -بعد الحفر العميق- تصل بنا إلى اللغز الأكبر والمحير والمدهش، وهو لغز الحياة ذاتها. فما يزيدنا التفكير في معنى الحياة إلا حيرة، وليس من سبيل إلا التسليم بقدرة مقتدر على صنع الحياة وإبداعها وصنع العقل الذي يفك رموزها وأسرارها، وأن يتطابق معها؛ فلا يكون ما في الذهن إلا كاشفًا عن حقيقة الواقع وإلا للزم من ذلك نقض الغرض وضياع الحكمة من وراء الخلق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة