من التاريخ

من الحكيم الجيلاني إلى المحقّق القمّي


«..مثلُك يعلم بالضرورة أنّ الإخلاد إلى أرض المادّة وازدياد التّثاقل بالانكباب على لوازم الطّبيعة الجسمانيّة، والاشتغال باستيفاء اللّذّات الحسّيّة والمشتهيات البهيميّة والسَّبعيّة، بل صرف تمام أوقات العمر في تدريس العلوم الرسميّة، وترك طريق التّصفية بالرياضات الشرعيّة، من موانع العروج إلى سماء المعارف الحقيقيّة..
فخُذ من العلوم المتعارفة الرسميّة أحسنَها، بقدر الضرورة، مع المجانبة عن المراء والمجادلة المُمرِضة.
ثمّ اشتغل بتلطيف السرّ؛ فإنّ العلم ليس بكثرة التّعلّم، إنّما هو نورٌ يُقذف في القلوب المستعدّة للإفاضة، بل العلم مجبولٌ في القلوب. تأدّب بالآداب الروحانيّة تجده. والجوعُ سحابٌ يُمطِر الحكمة، و«مَن أخلص لله أربعين صباحاً جَرَتْ ينابيعُ الحكمة من قلبِه على لسانه».
وسيّد علوم أهل البيت عليهم السلام نَكْتٌ في القلوب وقَرْعٌ في الأسماع، والعلم ما يحدث يوماً فيوماً ولحظةً فلحظة.
فارفض عنك رسوم العادة، ولازِم طريق أهل الشهادة الطالبين للحقائق، لأنّ لكلّ حقٍّ حقيقة، فخذ اللّباب واترك القشور في كلّ باب.
وإيّاك والاغترار بالظّاهر، لأنّ لكلّ آية ظهراً وحدّاً ومطلعاً.

جاهِد نفسك في الله تعالى
وكُنْ من الزّاهدين في الدّنيا وما فيها؛ لأنّها دارُ غرور الإنس والجانّ، وحياتها لهوٌ ولعبٌ بنصّ القرآن، فذَرْها للنّساء والصبيان، وشمّر مثل الرجال في طلب الآخرة، وهي الحيوان [أي الحياة الحقيقيّة] عند أهل العرفان.
وما الدّنيا؟ هل هي إلّا طعامٌ أكلتَه أو ثوبٌ لبستَه أو امرأةٌ أصبتَها، وهي عند أهل اللبّ في الظّلال.
كلّ ما في الكون وهمٌ أو خيال  أو عكوسٌ في المرايا أو ظِلال
 
واتّقِ الله حقّ تُقاته ما استطعت، واطلب الإعانة من الله، وجاهد أوّلاً في سبيل الله ثمّ في الله، لأنّ الثاني سببُ الوصول كما أشار إليه قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾ العنكبوت:69. ورمزَ إليه قول السّجّاد عليه السّلام: «مَن وفى بعهدِك، وأتعبَ نفسَه في ذلك وأجهدَها في مرضاتك فأَهلٌ للبشارة»، إذ ليس لأهل الإخلاص في النّشأة العنصريّة من خلاصٍ إلّا بإفناء بقايا الوجود وتسليم الأمر كلّه إلى وليّ الإحسان والجود.
فتقرّب إليه بالنّوافل، حتّى يكون الحقّ بصرك وسمعَك، فتكون من الرّجال السّابقين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأدّوا الأمانات إلى أهلها، ورُدّوا إلى الله مولاهم الحقّ، فإنّ لله أولياء تحت قبابه لا يعرفهم غيره.
وإن لم تستطع ولن تستطيع إلّا بمعونة توفيقٍ وتجريد واحتمال مشقّةٍ شديدة، فلازِم طريق أصحاب اليمين.

 دارِ أهلَ الدنيا
واعلم أنّ أكثر أهل الدّنيا أهلُ غفلة، لا خير فيهم ولا غنى عنهم، فهم من ضرورات الدّنيا وعمارة هذه الأولى، فنزّلهم منازلهم، واعرف لذوي الفضل منهم فضلَهم، ودارِهم ما دمتَ في دارهم، وأرضِهم ما دمتَ في أرضهم بلا مداهنةٍ في الدّين، ولا ركونٍ إلى الظالمين، واحتمل منهم الضّرر والأذى، فإنّ نعيم الآخرة محفوفٌ بالمكاره الدّنيويّة. واصبر نفسَك مع الذين آمنوا صبراً جميلاً، وتوكّل على الله واتّخذه وكيلاً.
ولا ترسل عنانك في مراتع الرُّخَص الشرعيّة الواردة لأهل الزّمان من ضعفاء العقول والنّسوان والمستضعفين من الرّجال ومن الصبيان.
واذكر عيش مولى الإنس والجانّ؛ فإنّه احترز عن دقيق شعير ببعض الأدهان.
ولا تقل: مَن حرَّم زينة الرّحمن؟ فإنّ تخيُّل ذلك في هذا المقام من تسويلات الشّيطان الموجبة للحرمان من درجات أهل العرفان والإيقان. وبين التّحريم وحرمان النّفس فرقٌ.
 في (الكافي) عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: «أفطرَ رسولُ الله عشيّة خميسٍ في مسجد قبا، فقال: هل من شراب؟ فأتاه أَوس بن خوليّ الأنصاريّ بعُسِّ مَخيضٍ بعَسَل [أي قدَح فيه حليب وعسل]، فلمّا وضعَه على فِيه نحّاه، ثمّ قال: شرابان يُكتفى بأحدهما من صاحبه، لا أشربُه ولا أُحَرّمُه، ولكن أتواضعُ لله..».
وقال صلّى الله عليه وآله عند الاجتناب من أكل الخبيص [نوع من الحلوى]: «أخافُ أن يُقال لي يوم القيامة: ﴿..أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا..﴾ الأحقاف:20».
وقال: «وإيّاكم والتّنعّم والتّلهّي والفاكهات».
وقال بعض في بعض الأدعية: «وأعوذُ بكَ اللّهمّ من رفيعِ المَأكل والمَشرب».
فلا تُذهب طيّباتِك في حياتك الدّنيا، ولا تنسَ نصيبَك من الآخرة؛ فإنّها خيرٌ وأبقى. وإيّاك وتناول الشّبهات والتّوغُّل في المباحات؛ فإنّها تورث القسوة، وتفوّت لذّة المناجاة.

 إيّاك وطلب الرئاسة
وإيّاك والرئاسة والتحدّث بها، لأنّه «مَلْعُونٌ مَن ترأّس، ملعونٌ مَن همّ بها» لأنّها لا تصحّ إلّا لأهلها، وهم الذين أماتوا نفوسَهم وأحيوا قلوبَهم وأخلوا دخائلهم من غير الله، وقضوا أوقاتهم في طلب مرضاته حتّى صارت أنفسُهم مواضعَ لمشيئة الله تعالى.

وإيّاك ومجالسة المترأّسين، سيّما مُدّعي العلم منهم بلا برهان؛ لأنّهم قومٌ نسوا الله فأنساهم أنفسَهم، فيتّبعون شهوات الحيوان ويستدلّون بالمتشابهات عند مطالبة البرهان، فسوف يلقَون غيّاً وسيُصلون سعيراً.
فبعد تطهير قلبك استفتِ قلبَك، فإن أفتاك فعليك بجمع الحقيقة والطّريقة والشّريعة، فإنّ فاقدَ أحدها ليس بإنسانٍ في الحقيقة.
وبالجملة لا بدّ لك من تحصيل عقائد برهانيّة، وحقائق ربّانيّة عرفانيّة، وأخلاق فاضلة نفسانيّة... وآداب شرعيّة، وعبادات بدنيّة، بشرائطها المقرّرة الدّينيّة، حتّى تعرف صدق ذلك من قلبك.
وذلك لا يحصل بالمُنى ولا يُنال بالهوى، ولا يُدرَك بالأسباب الظاهرة من العباء والرّداء، والتّختُّم بالعقيق وأخذ العصا والتّزيّن بزيّ العلماء والعبّاد والصّلحاء، والانتساب بالنسب إلى سلسلة الأتقياء، بل لا بدّ فيه من الزّهد في الدّنيا.
فلا يجدُ الرّجلُ حلاوة الإيمان حتّى لا يبالي مَن أكل الدّنيا، وينسى التّدريس والمدرسة والتّلامذة السّاكنة فيها، ثمّ النّيّة الصادقة والإخلاص في كلّ ما تأتي وتذر.
ــــــــــ
توفي رضوان الله عليه سنة 1197 للهجرة في أصفهان، ودُفن في مقبرة (تخت فولاد).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة