سياحة ثقافية

على طريق قم


السيد حسن الأمين

 قاضي قم
قاضي قم الذي أكسبها عزله شهرة حين نودي به: «أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم!» هذا القاضي الذي قال: «واللّه ما عزلني إلا حب السجع!»، هذا القاضي المنكوب بوظيفته له علينا حق أي حق، إذ عن طريقه سمعنا، أول ما سمعنا، بقم، ونحن لا نزال بعد أطفالًا نصغي إلى ما يتحدث به رجالنا في مجالسهم، فتعلق في أذهاننا شوارد طريفة من الأدب والتاريخ والشعر والعلم.
كانت هذه الطرفة بعض ما استعذبناه فحفظناه، وجعلنا نستحب اسم قم حتى قدّر لنا أن نمشي إليها، وأن نراها عيانًا، وأن نتذكر قاضيها المعزول، ونحن على مقربة من داره! في الطريق إلى قم... عبق التاريخ يفوح في طريق ينفتح أمامنا، فنمشي إليها من طهران في السيارة بين مزارع وصحارٍ وتلال ترابية وأخرى صخرية، وبين سهول بعيدة المدى تتخللها أحيانًا مزارع تشقها محاريث البقر! وننسى قاضي، ونحن ننحوها في تلك الصحارى القاحلة...
ننساه ولا يبقى له في الذهن مكان أمام ما ينثال على الذهن مما توالى عليه من ذكريات، وبكل ما حفل به تاريخها من أطايب تتمثل لنا في هذه الهنيهات من الزمن الذي يحملنا إليها.

الأشعريون فنحن الساعة نذكر «الأشعريين» الذي هجروا ديارهم نازحين من جور الحجاج، فحملوا إليها نفحات من عبقات الإمام علي(عليه السلام) ظلت تتأرّج فيها وتفوح حولها ما شاء اللّه أن تتأرج وأن تفوح!..
الشاعر دعبل الخزاعي ونذكر الشاعر دعبل الخزاعي، وقد مرّ بها راجعًا من لقيا الإمام الرضا(ع)، بعد أن مدحه بتائيته الشهيرة: فمدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات، وبعد أن منحه الإمام بدر المال فأباها وقنع بثوب من أثواب الإمام، فأهداه جبته، فآب بها فرحًا مسرورًا، ومر بقم، فعرف بعض أبنائها القصة فاستضافوه وساوموه على أن يهبهم الجبة بما شاء من مال، فأبى، وأغروه فامتنع، حتى إذا رحل عنهم قطعوا عليه الطريق وانتزعوا منه الجبة قهرًا بعد أن رفض أن يسخو بها طوعًا، فرجاهم عند ذلك أن يهبوه أحد كميها ليجعله في قبره عند موته، فوهبوه الكم. وأعطوه المال! في هذا الطريق مر دعبل الخزاعي راحلًا من قم، وعلى هذه التلعات أشرف، وعلى هذه السهول أطل..
هذا هو طريق الشاعر الثائر الحر، فما أحب هذه الآصال التي تحمل إلينا أنفاسًا كان دعبل قد شمها، وترينا معالم كان قد أبصرها، وتحملنا على محجة كان قد سلكها.
إني لأتمثله الساعة وقد طلعت به النيب على هذه الأكمة فتلفت إلى الوراء أسيفًا على فراق «مرو» ومن في «مرو»، فجعل يترنم بتائيته، وإني لأسمعه يشدو: فأرى فياهم في غيرهم متقسمًا وأيديهم من فيئهم صفرات رحمك اللّه، يا دعبل، فلقد كنت رفيقي في طريق قم، وسميري في هذه الصحارى وأنيسي على هذا الدرب البعيد!

موكب فاطمة بنت موسى وها هنا موكب فاطمة بنت موسى بن جعفر(ع) مقبلة من الحجاز إلى أخيها الرضا(ع) في مرو، حتى إذا بلغت «ساوة»، ومرضت بها تساءلت عما يفصلها عن قم؟ فقيل لها: عشرة فراسخ، فتحاملت على نفسها وسالتهم أن يحملوها إلى قم، فحملوها، فلما بلغ القميين مقدمها هب أشرافهم يستقبلونها، وفي مقدمتهم موسى بن الخزرج بن سعد الأشعري، فأخذ بزمام ناقتها وجرها إلى منزله، فكانت في منزله سبعة عشر يومًا، ثم ماتت، فدفنها موسى في أرض له.
كأنما شاءت فاطمة ألا تموت إلا في قم، وكأنها أصرت على أن تحمل من «ساوة» ليكون لقم من بعد هذا الشأن.
لقد كانت فاطمة وفية لقم، وفية للبلدة التي فر رجالها بحريتهم من الظلم حتى حطوا هنا على هذه النواحي.. على قم.. على البلدة الوادعة المؤمنة، فكانت لهم ملاذًا وكانوا لها اهلًا يتداولونها جيلًا بعد جيل، حتى جيل موسى بن الخزرج منهم، فكانت أرضه جدثًا لسليلة الفاطميين بنت الأئمة، جدثًا فضلته تفضيلًا، وسارت إليه بهزالها ودائها، سارت حيث علها السير وبهضها السفر..

ولكنها، وفي طبعها الوفاء، شاءت أن ترد للأشعريين، أحباب أهلها جميلهم وتضاعف لهم تحيتهم، فأناخت في رحابهم، يقود زمام ناقتها رجالهم، ويمرضها نساؤهم... حتى إذا حكم القضاء، واراها ترابهم، وأظلها سحابهم... فإذا بالأرض الطيبة، أرض موسى بن الخزرج الأشعري، الذي لم يكن في حسبانه يومًا أن تكون أرضه أكثر من صعيد ينبت العشب أو يطلع الزرع... إذا بالأرض البسيطة التي شق فيها الجدث ودفنت فيها التجاليد، ثم أهيل التراب كما يهال كل يوم على الألوف، ثم يطويهم النسيان... إذا بالأرض الأشعرية الطيبة والحقل الخزرجي البسيط، إذا بارض موسى مضيف فاطمة العلوية، وقائد ناقتها، والآخذ بزمام راحلتها، إذا بأرض زعيم الأشعريين محب الفاطميين تعود محجة من محجات الدنيا، وإذا بها بعد قرون وقرون كما كانت من قبل وكما ستظل من بعد مهوى القلوب وملتقى النفوس... وإذا بها مدرسة من أضخم مدارس الكون، يتحلق فيها ألوف التلاميذ، ويتدفق خير الأساتيذ! فيا للّه للوفاء، ما أزكى منابته وأطيب صوله! ومضت بنا دروب قم، ومضينا عليها في هبوب الذكريات وتألق الأحاسيس، وطالعتنا مساربها بصحار مجدبة في عز الربيع وبواد قاحلة في أعقاب الشتاء، وما خلت من قرى متناثرة في اليباب وزروع ممرعة على حافات الأجداب! مضارب بدو... وحقول نفط ها هي في السهل مضارب سوداء، كتلك التي نبصرها في بوادينا، منطوية على رحل تحف بهم مواشيهم وتدانيهم إبلهم قاضمة نبات الربيع، فهم هنا في بادية قم، كما هم هناك في بادية الشام، لا تستقر بهم دار ولا يقر لهم قرار، بل يركضون وراء الماء والعشب أنى وجدوهما، فها هم اليوم يطلون في أطلال الربيع على ما اخضوضر من هذه الأرض وما فار من هذا الماء مخلفين وراءهم «دامغان» و«سمنان» على أمل العودة إليهما في قابل.

وها نحن نشارف تخوم النفط، وها هي حقوله المتعالية تملأ النواظر. وهكذا في ساعة واحدة من مضارب الرحل ومنازل البداوة إلى آبار الزيت ونفاطات الحضر! قباب وضاءة ثم ها هي ذي، بقبابها الوضاءة ومناراتها الوهاجة، وها نحن على أبواب الأرض الأشعرية ندخلها مع الداخلين، فنغيب في تلك الجموع المتزاحمة على أعتاب فاطمة، وها هم السدنة في الحرم الطاهر يقودون الحشود الإيرانية في الزيارة مرتلين بلسان عربي مبين: بإذن اللّه، وإذن رسوله، وإذن خلفائه، أدخل هذا البيت..
ثم يمضون في الترتيل، والحشود ترتل معهم محيية محمدًا وآله وصحبه وخاصة بالتحية دفينة هذه الروضة: فاطمة بنت موسى بن جعفر(ع).

تكريم المرأة الفاضلة
إنه لتكريم رائع، لا لفاطمة وحدها، بل للمرأة الفاضلة أينما كانت، تكريم للمرأة وإعزاز لجنسها في شخص بنت الأئمة، تعلنه جموع الزائرين الهابطين من كل مكان... تعلنه وهي تتضرع إلى اللّه في «حرم معصومة قم» شهيدة الوفاء وحفيدة سيدة النساء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة