من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عن الكاتب :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، (1936م-2001م) عالم دين ومفكر إسلامي ومحدّث، كان رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. بدأ نشاطه العلمي والسياسي في مدينة النجف الأشرف ودرس عند السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. عاد عام 1969م إلى لبنان وتولّى رئاسة الاتحاد الخيري الثقافي الذي أسس عام 1966م و باشر بنشاطات ثقافية وفكرية وتبليغية. من مؤلفاته: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، مطارحات في الفكر المادّي والفكر الديني، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، بين الجاهلية والإسلام وغير ذلك.

اليمانيّون في كربلاء


الشيخ محمد مهدي شمس الدين

يغلب على الثوار غير الهاشميين أنّهم من اليمن، من عرب الجنوب. وربما كان هذا مؤشّراً إلى أنّ الذين بايعوا مسلم بن عقيل كان أكثرهم من عرب الجنوب. لقد كانوا - فيما يبدو - يمثّلون القسم الأكبر من جمهور الثورة.
ولعلّ من مؤشّرات ذلك أنّ مسلم بن عقيل تحوّل - حين جاء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة من بيت المختار بن أبي عبيد الثقفي وهو من مضر (عرب الشمال) - إلى منزل أحد كبار زعماء عرب الجنوب في الكوفة (هاني بن عروة المرادي).
ولعلّ من أعظم المؤشّرات دلالةً على ذلك أيضاً، أنّ عبيد الله بن زياد حين أراد إلقاء القبض على مسلم بن عقيل بعد (تخاذل الناس عنه) في الكوفة، اختار الجنود الذي أرسلهم لهذه المهمّة من عرب الشمال، من قيس، ولم يكن فيهم أحد من عرب الجنوب، من اليمن، على الإطلاق، وإن كان قد جعل عليهم قائداً من اليمن، هو عبد الرحمن بن الأشعث.
وإذا كانت حركة مسلم بن عقيل، في الكوفة قد تميّزت بهذه الظاهرة اليمنيّة، فإنّنا نلاحظ أمراً عظيم الدلالة بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام، عندما أعلن رفضه لبيعة يزيد بن معاوية في الحجاز.

فعندما عزم الحسين صلوات الله عليه، على الخروج من المدينة إلى مكّة، ثمّ عندما عزم على الخروج من مكّة إلى العراق، وفي طريقه إلى العراق، تلقّى «نصائح» من رجال متنوّعي العقلية والاتجاهات تُجمع على أمر واحد؛ هو أن يتوجّه الحسين عليه السلام - بدلاً من العراق - إلى اليمن.
تلقّى هذه النصيحة من أخيه محمّد بن الحنفية عشية توجّهه من المدينة إلى مكّة، وتلقّاها من عبد الله بن عباس في مكّة، وتلقّاها من الطرماح بن عديّ الطائي، وذلك حين لقيه في عذيب الهجّانات، وقد جاء دليلاً لأربعة نفر من أهل الكوفة لحقوا بالحسين عليه السلام بعد مقتل مسلم بن عقيل.
بل إنّنا نجد هذه الظاهرة (اليمنية) تستمرّ إلى ما بعد كربلاء، وبعد يزيد بن معاوية، لتنشر ظلّها على الأحداث. فقد خلع أهل الكوفة - بعد موت يزيد بن معاوية - ولاية بني أميّة وإمارة ابن زياد، وأرادوا أن ينصبوا لهم أميراً إلى أن ينظروا في أمرهم:
فقال جماعة: «عمر بن سعد بن أبي وقّاص يصلح لها، فلمّا همّوا بتأميره أقبل نساء من همدان وغيرهنّ من نساء كهلان والأنصار وربيعة والنخع، حتى دخلن المسجد الجامع صارخات باكيات معولات يندبن الحسين، ويقلن: أمَا رضيَ عمر بن سعد بقتل الحسين حتى أراد أن يكون أميراً علينا على الكوفة، فبكى الناس، وأعرضوا عن عمر. وكان المبرّزات في ذلك نساء همدان». (مروج الذهب:3/93).

هذه الظاهرة (اليمنية) في الثورة الحسينية المقدّسة تدفعنا إلى الملاحظة التالية، وهي: أنّ نسبة الزيادة في عرب الجنوب بالنسبة إلى عرب الشمال في القوة الثائرة في كربلاء، وإن كانت محدودة جداً، فإنّها، مع ذلك، تصلح أن تكون علامة قيّمة على (قوّة حضور) الثورة الحسينية من الناحية العقيدية والمبدئية (في نفوس الناس). فمع أنّ معاوية منذ اكتشف أنّ «مُضَر»، منحرفة عنه، أخذ يعتمد في دولته على العنصر اليمني، وكذلك من بعده ابنه يزيد، وأمّه يمنية من كلب؛ مع هذا نجد أنّ نسبة عرب اليمن في الثورة أكبر من نسبة عرب الشمال.
إنّ الثورة عمل سياسي، وقد كان من الطبيعي جدا أن يتمّ هذا العمل السياسي وفقا لأصول العمل السياسي التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك، وذلك بأن تكوّن الثورةُ جمهورَها من خلال منطق الصراع القبلي، وأن تتعامل مع هذا الجمهور من خلال هذا المنطق، ولكن ما حدث كان على خلاف ذلك، فقد تكوّن جمهور الثورة على مهل نتيجةً لوعي الواقع على ضوء المبدأ الاسلامي، وقد تعاملت الثورة مع هذا الجمهور من خلال قناعاته العقيدية لا من خلال غرائزه القبلية.

هل يعني هذا أنّ عرب الشمال كانوا بعيدين عن الثورة؟
من المؤكّد أنّ هذا الاستنتاج لا صحّة له على الإطلاق، ومن المؤكّد أنّ عرب الشمال كانوا يكوّنون من جمهور الثورة عنصراً كبيراً، وإن كنّا لا نستطيع أن نجد في الثورة ظاهرة (مُضَرية) أو ظاهرة (عدنانية)، بل نلاحظ أنّ بعض النصوص يشير إلى دورٍ بارز قامت به بعض عناصر عرب الشمال، وهم القيسيّون، في مساندة السلطة لقمع الثورة الحسينية. نذكّر في هذا المجال بما تقدّم من أنّ القوة التي قبضت على مسلم بن عقيل كانت من قيس. (الطبري:5/ 373).
وثمّة نصّ شعريّ عظيم القيمة يضيء الموقف القبلي، فهو يبيّن أّن قيساً هي الغريم الأكبر مسؤولية في قتل الحسين: قال سليمان بن قته المحاربي التابعي، من جملة شعر له في رثاء الحسين عليه السلام:
 وإنّ قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشم
أَذَلَّ رقابَ المسلمين فذلّتْ
وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا
سنَجزيهم يوماً بها حيث حلّتْ

 فالشاعر في رثائه الحسين عليه السلام يذكر قيساً (قيس عيلان بن مضر) ويذكر غنيّاً (من غطفان، من قيس عيلان) ويحمّلهما مسؤولية مقتل الحسين عليه صلوات الله، ويهدّد بالانتقام.
لقد كان ثوار كربلاء جمهوراً صغيراً، بجناحيه من عرب الجنوب وعرب الشمال، ولكنّه كان يمثّل النخبة، فيجب أن نلاحظ أنّ كثيراً من الثائرين لا يمثّلون - عددياً - أشخاصهم، أو أُسَرهم، وإنّما يمثّلون، فيما وراء ذلك، جماعات كبرى من القبائل.
ولأنّ الثوّار يمثّلون النخبة، فقد كانوا قادرين على السيطرة على الموقف لو قُدّر للثورة أن تنتصر، وتمكّنوا من الاستيلاء على الحكم، وكانوا قادرين - إذا لم يتح لهم النصر - كما حدث في الواقع - أن يفجّروا طوفاناً من الغضب ضدّ الحكم المنحرف في قلوب جماهير غفيرة الناس، وأن يضعوهم على طريق الوعي الحقيقي، وأن يجعلوا منهم جمهوراً يغذّي الثورات باستمرار، وهذا ما حدث في الواقع.
نقدّر أنّ رجال النظام الأموي قد اكتشفوا هذه الحقيقة، وقرّروا أن يواجهوها. وهذا هو ما يفسّر لنا الأسلوب الذي اتّبعوه في معالجة الثورة وسحقها بشكلٍ وحشيٍّ، لا تدعو إليه ضرورة عسكرية، ولا تقضي به ضرورة الأمن.

فقد اتّبعت طريقة شاذّة وغير مألوفة في قتل عدد من شخصيات الثائرين في الكوفة. فقد ضربت عنق مسلم بن عقيل، ثم رُمي به من أعلى القصر إلى الأرض فتكسّرت عظامه.
وضربت عنق هاني بن عروة في السوق بعد أن شُدّ كِتافاً، ثم جرّاً بأرجلهما في سوق الكوفة.
وعبد الله بن بقطر رمي به من أعلى القصر فتكسّرت عظامه، وبقي به رمق فذُبح.
وقيس بن مسهّر الصيداوي؛ أمر عبيد الله بن زياد أن يُرمى به من فوق القصر، فرُمي به، فتقطّع فمات.
وفيما بعد، اتّبعت طريقة السحق الوحشي الذي لا يُبقي ولا يذر بالنسبة إلى جماعة الثوار الصغيرة في كربلاء. فمع أنّ العدد محدود للغاية، حُشد له من القوة العسكرية عددٌ كبير جداً، ووُضع العراق كله في حالة تأهّبٍ قصوى، وحُكم العراق كلّه حكماً عرفياً. لقد أرادت السلطة أن تحترز من وقوع أيّ خطأ يجعل أحداً من هذه العناصر القيادية الخطرة يتسرّب من قبضتها.
ثمّ كانت إجراءات قمع الثورة وسحقها تشتمل على تصرّفات شاذّة لا تقضي بها أيّة ضرورة عسكرية. لقد حوصر الثائرون، وحِيل بينهم وبين أن تصل إليهم أيّة معونة، وعُذّبوا مع أطفالهم ونسائهم بالعطش، ثمّ قُتلوا، ثمّ رُضّت أجسادهم بحوافر الخيل، ثمُ قُطعت رؤوس العناصر البارزة في المجتمع الإسلامي من الثوار، ثمّ سُبيت نساؤهم، والهاشميات منهم بوجه خاص.

لماذا كلّ هذه الوحشية التي لا لزوم لها على الإطلاق؟
لقد أرادت السلطة أن تجعل هؤلاء الثائرين عِبرةً لغيرهم، وأرادت أن تُحدِث تأثيراً نفسياً محطّماً في العناصر (الشاذة) في القبائل، لقد أرادت أن تحطّم المناعة النفسية في البؤر الثورية في كلّ العرب، في عرب اليمن - وهم الذين كبرت على السلطة ثورتهم، وهم المقرّبون من الدولة وأهل السلطان - وفي عرب الشمال.
لقد تصرّفت السلطة مع الثوّار بوحشية تُضرب بها الأمثال، فقد اكتشفت أنّ الثورة اجتذبت بسهولة عناصر قيادية كان يجب أن تكون موالية (زهير بن القين البجلي، وأمثاله)، لأنّها من قمّة الهرم الاجتماعي، من (الأشراف) رؤساء القبائل، وأحسَّ الزعماء القبليون التقليديون أنّ سلطانهم على قبائلهم سيذهب إذا تعاظم هذا التيار وكُتب له النصر، فتعاونوا مع السلطة بإخلاص كبير، وحماس شديد، حفظاً لمصالحهم في السلطان والزعامة.

إنّ الأسلوب الذي اتّبعته السلطة مع الثوّار لم تدعُ إليه ضرورة عسكرية، لقد كان عملاً سياسياً يراد منه جعل الثائرين عبرة لغيرهم، وهو يشبع - في الوقت نفسه - روح الانتقام والحقد.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة