مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

الاحتفال بالمولد الشريف إحياءٌ للسنّة النبويّة


الشيخ جعفر السبحاني

ما فتئت سيرة المسلمين، منذ الصدر الأول وحتى يومنا هذا، قائمة على تقديس النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله، بأعظم آيات التبجيل، والاحتفال بأيامه كافّة، واعتبارها أعياداً بالمعنى الأعمّ للكلمة. فقد سُئل صلّى الله عليه وآله عن صيام يوم الاثنين، فقال –كما في صحيح مسلم: «ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه، وفيه أُنزلَ عليّ». ما دلّ -وغيره كثير- على أن ليوم مولده المبارك خصوصية تنسحب على سائر المناسبات الكبرى في حياته الشريفة: كيوم البِعثة، والهجرة، والإسراء والمعراج، وغيرها.
لقد احتفل المسلمون حِقباً وأعواماً، بذكرى المولد النبويّ، في جميع أمصار العالم الإسلاميّ، من دون أن يعترض عليهم أحدٌ من الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وقد تحقّق الإجماع على جواز هذه الاحتفالات، بل استحبابها المؤكّد، قبل أن يولَد باذرو الشكوك، كابن تيميّة وشيوخ الوهابية، وأضرابهم من رؤوس الضلال الانحراف.

حبّ رسول الله من أصول العقيدة
الحبّ والبغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب. ولا شكّ أنّ حبّ الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحبّ، وهو أمر بديهيّ لا يحتاج إلى البيان، ومن هذا المنطلق حبُّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً، فهو كما يحبّ نفسه يحبّ كذلك كلّ ما يمتّ إليه بِصلة، سواء كان اتصاله به جسمانياً كالأولاد والعشيرة، أو معنوياً كالعقائد والأفكار والآراء، وربّما يكون حبّه للعقيدة أشدّ من حبّه لأبيه وأمّه، فيذّب عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شي‏ء، حتّى نفسه التي بين جَنبيه.
فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة، تكون لمؤسّسها والدعاة إليها منزلة لا تقلّ عنها؛ إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضرّ لها عود.
ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشرية، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حبّ النبيّ وكلّ ما يرتبط به، وليست الآيات إلاّ إرشاداً إلى ما تُوحي فطرة الإنسان إليه.
قال سبحانه: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. [الأعراف:157]
والمراد من «تعزيره»، في الآية، توقيره وتكريمه وتعظيمه، بما أنّه نبيّ الرحمة والعظَمة، ولا يختصّ تعزيره وتوقيره صلّى الله عليه وآله بحال حياته، بل يعمّها وغيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به والتبعيّة لكتابه لا يختصّان بحال حياته الشريفة.
وقد ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أشدّ أُمّتي لي حبّاً قومٌ يكونونَ بَعدي، يوَدُّ أحدُهُم أنّهُ فَقَدَ أهلَه ومالَه وأنّه رآني».

تجليّات المودّة لرسول الله
ليس الحبّ شيئاً يستقرّ في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاسٌ خارجيّ على أعمال الإنسان وتصرّفاته، بل إنّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة. فحبّ الله ورسوله الكريم لا ينفكّ عن اتّباع دينه، والاستنان بسنّته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه.
ولا يقتصر أثر الحبّ على ما تقدّم، بل له آثار أُخرى في حياة المحبّ، فهو يزور محبوبه ويُكرمه ويعظمه ويزيل حاجته، ويذبّ عنه، ويدفع عنه كلّ كارثة، وإذا كان المحبوب ميتاً أو مفقوداً حزن عليه أشدّ الحزن، وأجرى له الدموع. كما فعل النبيّ يعقوب عليه السلام، عندما افتقد ولده الحبيب يوسف عليه السلام، فبكاه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن.
بل يتعدّى أثر الحبّ عند فقد الحبيب وموته هذا الحدّ، فنجد المحبّ يحفظ آثار محبوبه، وكلّ ما يتّصل به، ويحتفل كلّ عام بميلاده وذكرى موته، ويُكرمه ويعظمه حبّاً به ومودّة له.

إلى هنا ثبت، أنّ حبّ النبيّ وتكريمه أصلٌ من أصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، ومن المعلوم أنّ المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يُرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكل ما يعدّ مظهراً لحبّ النبيّ، شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات ولا يكون منكَراً في الشريعة، نظير:
1) تنظيم السنّة النبوية، وإعراب أحاديثها وطبعها ونشرها.
2) تأليف الكتب المختصرة والمطوّلة حول حياة النبيّ وعترته، وإنشاء القصائد في حقّهم، كما فعل المسلمون الأوائل.
3) تقبيل كلّ ما يمتّ إلى النبيّ بِصِلة: باب داره، وضريحه، وأستار قبره المنوّر، انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته.
4) إقامة الاحتفالات في مواليدهم، شريطة أن لا تقترن بالمنهيات والمحرّمات.
ويُرشدك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيدٌ لتكريم النبيّ، وجدانُك الحرّ، فإنّه يقضي بلا مِرية على أنّها إعلاءٌ لمقام النبيّ وإشادة بكرامته وعظَمته، بل يتلقّاها كلّ مَن شاهدها عن كثب، على أنّ المحتفلين يوقّرون نبيّهم ويكْرمونه ويرفعون مقامه اقتداءً بقوله سبحانه: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾.

قال شهاب الدين القسطلانيّ -وهو من فقهاء الشافعية ومحدّثيهم في القرن العاشر- في كتابه (المواهب اللدنيّة:1/148): «ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضلٍ عظيم... فرحم الله امرأً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشد عِلّةً على مَن في قلبه مرض، وأعيا داءً».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة