قرآنيات

الاعتدال

السيد موسى الصدر
هذه الآية: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ [النحل، 125] موجودة في القرآن الكريم، لكن في غير هذا المكان. كما أن هناك آية تقول أن ربك ﴿هو أعلم بالمهتدين﴾ [القصص، 56] لأن المشكلة، مشكلة الاهتداء غير مشكلة الضلال. وهذان العنوانان مستقلان في القرآن، عنوان الضلال وعنوان الاهتداء وفي سورة الحمد إذا لاحظتم يقول: ﴿اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم﴾ [الفاتحة، 6-7]، هذا الطيب الخير، ثم عنوانان منحرفان: ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ [الفاتحة، 7]. المغضوب عليهم هم المعتدون في المنطق القرآني.

أما بالنسبة للآيات بشكل عام طالما جرى الحديث عن الآية الأخيرة فلنتحدث في هذه الآية بالذات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرًا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين﴾.
الآية تؤنب أولئك الذين يحرمون على أنفسهم ما أباحه الله لهم. وبتعبير آخر، أولئك الذين يمتنعون عن أشياء ويبيحون لأنفسهم أشياء لمجرد أهوائهم ورغباتهم بغير علم، يعني يضعون مقاييس جديدة للاجتناب والممارسة غير المقاييس الإلهية، وهذا أمر خطير، وفي المنطق القرآني هذا هو الاعتداء.

والسبب في ذلك أنه نحن نعتقد أن كل حرام له مفسدة، إما في فعله، أو في مجرد ممارسته أو في مضاعفات الحكم كما يذكرونها بالتفصيل في الفقه. ليس هناك من حكم جزافًا وبلا سبب، كل حكم يصدر عن مصلحة، كل أمر يحتوي على مصلحة، كل نهي وحرام يحتويان على مفسدة، والله سبحانه وتعالى الخبير بالمصالح والمفاسد.
وهناك أمر موضوعي شامل عدا قضية احتواء كل حكم على مصلحة أو مفسدة، هذا الحكم الموضوعي الشامل عبارة عن منطق الحلال والحرام في الدين، وهذا المنطق بإمكاننا أن نقول منطق أصيل ومايز في الأديان يختلف عن المنطق الآخر الممارس لدى الصوفية.

في المنطق الصوفي: الجسم والروح شيئان مختلفان بل متناقضان، إضعاف أحدهما يقوي الآخر وتقوية أحدهما يضعف الآخر. ولذلك فلدى الصوفي كل شيء مرغوب في الجسم إذا امتنع عنه الإنسان فسوف يكون في الامتناع كمال للروح، وكل شيء غير مرغوب ومعذِّب للجسد إذا مارسه الإنسان فسيؤدي ذلك إلى تقوية الروح.
هذا المنطق في الإسلام يختلف عن المنطق الصوفي، الإسلام لا يفرّق بين الجسد والروح كما جرى الحديث عن ذلك عدة مرات. ولكن يرى الإسلام أن الإنسان يتعرض لخطر الذوبان، لأنه عندما يمارس كل ما يشاء، يذوب في مشيئته ومشيئة الإنسان الناتجة عن الحاجات الجسدية، في الحقيقة تعتبر طغيان الأرض أو طغيان الجسد أو طغيان الماديات أو على حد تعبير القرآن طغيان آلهة غير الله على الإنسان. فإذا مارس الإنسان كل شيء يرغبه فمعنى ذلك أن سماءه قد تحطمت وأنه أصبح أرضيًّا فحسب.

نظام الحلال والحرام، أن كل شيء فيه حلال وحرام، معنى ذلك أنك إذا أتيت شيئًا وأردت أن تستعمله، لا تفكر في رغبتك وعدم رغبتك، لا تكفي رغبتك في الممارسة عند الإنسان الملتزم بل يجب أن يكون للشيء إلى جانب رغبتك رضى الله، فإذا وجدت أن الله راضٍ عنه تمارسه وإلا فلا. ومعنى ذلك أنك رغم عدم تنكرك لأرضيتك، يعني لذلك أنك ما فقدت جسمانيتك وأرضيتك، ما حاولت إضعاف أرضك أو إضعاف جسدك الذي هو مهبط وحيك وسمائك، فأنت تخضع لرغبتك ولكن لا لرغبتك فحسب، بل الرغبة التي يرضى عنها الله سبحانه وتعالى، وبذلك تحافظ على جسميتك ولا تخضع لها، ولا تذوب فيها، ولا تنكر لسماويتك فتحفظ بذلك اعتدالك وتوازنك بين الجسم والروح.

وهذا المفهوم بالحلال والحرام مبدأ عام، ولكن من الطبيعي أن الحكم الإلهي حيث إنه صدر عن العقل عن العاقل، بل صدر عن إله العقلاء، لا يمكن أن يصدر حكم إلا ووراءه مصلحة أو مفسدة، فإذا وجدنا أن هناك شيئًا محرمًا فنجد أن هناك بالفعل مفسدة.
على ذلك، الخضوع للمحرمات الإلهية والاجتناب عنها إلى جانب أنه يؤدي إلى التجنب للمفاسد والنجاة من المضار، بالإضافة إلى ذلك، يجعل الإنسان يكتمل في جسمه وفي نفسه، في أرضه وفي سمائه اكتمالًا منسقًا متكاملًا، جسم يرتفع ونفسه وروحه أيضًا ترتفعان دون أي ذوبان ودون أي طغيان.

 

<p justify;\"="" style="text-align: justify;">أما الذي يريد أن يفلسف الأشياء فمثلًا تقول له أن الخمر محرم، يقول لك، أنا لا أعرف الحرام ولكن أعرف أن الخمر يضر فأجتنب الخمر دون شك من جهة التجنب للمفاسد لا يختلف بينه وبين الإنسان الذي لا يشرب الخمر إطاعة لأمر الله ولكن الإنسان الذي يتجنب الخمر لأن عقله يمنعه سيحرم من الكمال الحاصل عن نظام الحلال والحرام، لأنه مع كل ممارسة لما يرغب إليه، ومع كل تجنب لما يمنعه عقله يقوي بهذه الممارسات أهواءه ورغباته وتشخيصاته وإدراكاته وقناعاته. فهو مع كل ممارسة يقطع نفسه عن الله ويبتعد عن الله ويقوي غروره وسلطان إرادته على ذاته. ولذلك فهو في كل خطوة في هذا السبيل يضل، يعني ينحرف عن الحق وينحرف عن الطريق الصحيح. وهو مع كل خطوة يعتدي على ذاته لأنه يقطع نفسه عن الله فهو من المعتدين، والله أعلم بالمعتدين.
هذا المنطق، منطق الحلال والحرام، من أنفس المبادئ الواردة في الإسلام، وهذا المبدأ منسجم مع الإيديولوجية الأصلية عند الإسلام حول مقارنة الروح والجسم وتفاعلهما مع بعض.
فنسأل الله أن نكون كما يريد القرآن الكريم، حيث يقول: ﴿وابتغِ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾ [القصص، 77]، أن نكون من الأمة الوسط، من المعتدلين من الذين نسلك سبيل الكمال المتكامل لا الكمال في جهة النقص.

مواقيت الصلاة