علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

كيف نجنّب أولادنا فوضى الخيال وعبثيّته

 

السيد عباس نورالدين
لا ينحصر دور الخيال بالإبداع، فهو أيضًا وسيلة مهمّة عند البشر للانتقال من المحسوس إلى المعقول. وغالبًا ما تحتاج عقولنا للاستعانة بالمفاهيم الخيالية وتمثيلاتها وتشبيهاتها للوصول إلى المفاهيم المجرّدة. هذا بالإضافة إلى وجود علاقة وطيدة بين الذاكرة والخيال، فمن ضبط خياله قويت ذاكرته. ولأنّ "آفة العلم النسيان"،[1]كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّ الذاكرة القوية هي أحد أهم مفاتيح التعلّم السريع وعوامل نجاحه.
وفي المقابل، قد نعاني من عبث الخيالات وبطلانها وفسادها. فحين لا تنضوي قوّة الخيال تحت قوّة العقل ولا تتّبع الفطرة الطالبة للكمال، فمن المتوقّع أن تصبح قويّة الحضور في أذهاننا وتفكيرنا وتوجّهاتنا، حتى في الأوقات والحالات التي لا نحتاج فيها إليها. وهكذا تجتاحنا جحافل الصور الخيالية لتفرض علينا الاهتمام والانشغال بها، بل وحتى اتّباعها، حين لا ينبغي ذلك ولا يجوز، كما في حال الصلاة التي يتوقّف قطف ثمارها الروحية الكبرى على توجّه القلب وحضوره وتمركزه في المعاني الجليلة والحقائق الوجودية السامية المودعة فيها؛ وهي لا شك معانٍ وحقائق تفوق عالم الخيال أهمية ونوعية.


 ولعلّ أهم أسباب الحرمان من الخشوع في الصلاة يرجع إلى عبث هذه القوّة واستيلائها على مملكة وجود الإنسان وسيطرتها على تفكيره واهتماماته. وفي هذا حرمانٌ عظيم من بركات وكمالات لا حدّ لها.
وقد تسيطر علينا الخيالات الباطلة التي هي عبارة عن تلك الصور الوهمية المنفصلة عن عالم الحقيقة والواقع والوجود. ومن المعلوم أنّ كل باطل ووهم لا يؤدّي إلى نفع، وأنّ استقامة الحياة إنّما تكون في ظلّ اتّباع الحقّ والعمل به. ومثل هذه الخيالات تشكّل مسرحًا للشكوك والشبهات ومحلًّا لانبعاث الأفكار الخاطئة المضلّة. وما أكثر ما يصوّر لنا الشيطان الباطلَ بصورة الحقّ، مستغلًّا هذه المساحة الخيالية المتفلّتة.
أمّا الخيالات الفاسدة فنقصد بها تلك الصور الباعثة على السوء والمعاصي والرغبات الدنيئة. وما أكثر هذه الصور انتشارًا في عالمنا الافتراضيّ والإعلاميّ وحتى الأدبيّ. وحين يكثر هذا النوع من الصور، ويحوز على اهتمام الإنسان ويشغل باله، فإنّه يصبح قريب الأفق من المعاصي والموبقات، ويوشك أن يقع فيها.


لأجل ذلك كلّه يجب أن تهتم التربية الجادّة بضبط الخيال والسيطرة عليه، من دون أن يؤدّي ذلك إلى إضعافه ووهنه؛ كما يحصل مع القوّة الغضبية، فإنّ النهي عن الغضب لا يُقصد به القضاء على هذه القوة، وإنّما الإمساك بزمامها والسيطرة عليها وتوجيهها بالاتّجاه الصحيح. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَنْ أَحَدَّ سِنَانَ‏ الْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِيَ عَلَى قَتْلِ أَشِدَّاءِ الْبَاطِل"‏.[2]
ففي الوقت الذي نربّي أبناءنا وندرّبهم على ضبط خيالاتهم، لا ينبغي أن نقمع هذه القوّة، لأنّها جسر مهم بين هذه الدنيا والعوالم العليا، بالإضافة إلى أنّ لها دورًا بنّاءً شديد الأهمية على صعيد تغيير هذا العالم الأرضي.
 فإذا كانت مهمّة الإنسان الأولى في خلافة الله على الأرض تستدعي أن يُعمل على إحيائها وإصلاحها وتغييرها لتكون أرضًا عليا راقية متطوّرة، فهذا كلّه يستلزم تصوّرًا خياليًّا للمثل الأعلى المنشود، وهو مستودع في خريطة هندسيّة تظهر تفاصيل تلك الأرض المشرقة بنور ربّها. وإنّما كانت كرامة الإنسان ومنزلته العليا بين الكائنات في حيازته على الخيال القويّ مع قوّة العقل؛ فيقدر بذلك على اكتشاف تلك الخارطة التفصيلية من دون عبث الشياطين ومردتهم.


وفي هذا العصر والزمان، يجد الكثير من المربّين أنفسهم بين نارين مستعرتين: نار الخيالات الفاسدة والعبثية، ونار خمود الخيالات وضعفها. فالأولى تقود إلى الانحرافات المسلكية والفكرية، والثانية تؤدّي إلى ضعف النفس والانحطاط والانطوائية وقلّة الفاعلية. 
إنّ الحل الأمثل والجادة الوسطى إنّما تتعبد بواسطة سبق العقل وتنصيبه حاكمًا وقائدًا لمركبة وجودنا. وصحيح أنّ قوّة الخيال تسبق في نشوئها ونموّها قوّة العقل في المرحلة العمرية الأولى، لكن إن استطعنا أن نجنّب أبناءنا هجمات وغزوات الخيالات الباطلة والفاسدة والعبثية في هذه المرحلة الحسّاسة، فإنّنا سنوفّر لهم الفرصة المناسبة لاكتشاف قدرات العقل وتنميته وترشيده في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان؛ هذا بالإضافة إلى أنّهم سينالون منه عندئذٍ ما يحتاجون إليه لصدّ تلك الهجمات ومنع تغلغلها، إن استطاعت أن تخترق قلعة التربية الحصينة (وهو أمر شبه حتميّ في هذا الزمان).
 فكأنّ أطفالنا هنا يناشدوننا ويرجوننا لحمايتهم وصيانتهم من سلبيات عالم الخيال في المرحلة التي لا يمتلكون الإرادة الكافية لصدّها، فضلًا عن الافتقار إلى الوعي المطلوب للتعامل معها بعقلانية وتمييز؛ حتى إذا نضجت القوة العقلية فيهم وانبعثت في ظلّ حريتهم يصبح لديهم ما يحتاجون إليه لمواجهة هذا التحدّي الكبير.
 

إنّ معظم غزوات الخيال السلبية تحصل من خلال وسائل الإعلام وبعض مناهج التعليم؛ حيث يتلقّى أبناؤنا الكثير من الصور الخيالية التي لا تنسجم مع العقل والمنطق وهم غير متسلّحين بالقدرة العقلية الكافية لاكتشاف هذا التعارض والتضاد. وتكمن المصيبة هنا في أنّ تراكم الخيالات (في مجالٍ ما أو قضية معينة) سيكون له الأثر نفسه الذي تعطيه قوّة الحقيقة تقريبًا، على قاعدة "كذّب كذّب حتى يصدقك الناس". فالذهن البشريّ سيصدّق بالأوهام ويعتقد بالأباطيل فيما إذا تكرّر تواردها عليه بصورةٍ كبيرة، خصوصًا إن لم يكن هناك أي تصادم عقليّ وحقّاني معها. 
أجل، إنّ الباطل بحدّ ذاته زهوق ومدمغ، ولكن زهوقه ودمغه لا بد أن يتحقّق بواسطة هجوم الحق عليه؛ كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِق}؛[3] وقال عزّ وجل: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا}.[4]
 وهل يمكن للمربّين أن يعوّلوا على الوقت الذي سيأتي الحقّ ويقذف ذلك الباطل الذي سيطر على أذهان أبنائهم؟ وأنّى لهم أن يعرفوا ما هي الأباطيل التي تعشعش في تلك الأذهان لكي يأتوا لها بالحق المناسب؟ وهل سيكون الأبناء مستعدّين لسماع صوت الحقّ حينها؟ فمثل هذا التعويل هو أمرٌ في غير محلّه. فالأصح أن يعملوا منذ البداية على منع تسلّل الأباطيل إلى أذهان الأبناء مهما أمكن؛ وأفضل منه أن يطبّقوا أصول التربية العقلية بحسب المراحل العمرية المختلفة.  
ـــــــــــ
[1]. من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 373.
[2]. نهج البلاغة، ص 501.
[3]. سورة الأنبياء، الآية 18.
[4]. سورة الإسراء، الآية 81.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة