علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

الدين في عصر الفردانيّة واللامنطقيّة (2)

 

حيدر حب الله

تقوم فكرتي المتواضعة على:
أـ مَوْضَعَة العبادة بين الجوهر والصورة، وتأثير ذلك على الخطاب والتعليم الديني
إعادة موضعة العبادة ضمن ثنائيّة الجوهر والصورة، وأعني بذلك أنّ الجوهر العبادي في الدين هو ذلك الارتباط الروحي الحقيقي بالله، لكنّه ليس ارتباطاً اعتباريّاً، كأنْ أصلّي وأقصد القربة لله، أو أعتبر أنّ صلاتي هي لله، كما يفعل شخصٌ عاديّ مثلي على سبيل المثال، بل الارتباط الروحي هو ما كان الوجوديّون الإيمانيّون يسمّونه بالعلاقة المكوّنة لهويّةٍ. وعلى سبيل المثال: إنّ العلاقة بين الأمّ وولدها ليست مجرّد اعتبار أو مفهوم تستحضره الأمّ عندما تريد الاهتمام بأولادها، بل هو جزءٌ مكوِّن لهويّتها. فقبل الأمومة هي شيءٌ، وبعدها هي شيءٌ آخر؛ لأنّ طرفاً أساسيّاً دخل في كيانها، وهو الولد، ودخوله سبَّب إعادة تكوُّن حياتها الروحيّة والنفسيّة وكلّ شيء فيها، فكأنّها وُلدت بولادةٍ جديدة..

إنّ دخول الله على خطّ العبادة، بوصفه طرفاً في العلاقة العباديّة، التي تعيد تكوين هويّة الإنسان وولادته، يختلف كثيراً عن دخوله الافتراضي عند ممارسة العبادة.
إذا لم تتحوَّل العلاقات العباديّة إلى هذا النوع الروحيّ العميق فهذا يعني أنّنا أمام المشكلة الطقوسيّة. والإنسان الحديث لا يحبّ الطقوس التي تحوِّل حياته إلى صورةٍ نمطيّة مُسْقَطة، وليست نابعةً من ذاته. ولا أعني بذلك صيرورة كلّ الناس عرفاء، فقد تحدَّث الأخلاقيّون المسلمون عن صعوبة حضور القلب في تمام أفعال الصلاة، حتّى أنّ بعضهم جعل حضوره في تكبيرة الإحرام واجباً، وأسقط وجوبه عن غير ذلك، بل أعني أنّ الخطاب والتعليم والتوجيه والتبليغ واللغة الدينيّة في قضايا العبادات والصِّلات القربيّة بالمقدَّس يجب أن يصبح خطاباً علائقيّاً روحيّاً، فيما يكون الشكل الظاهري للعبادة مفهوماً تابعاً. وهذا يعني تقدُّم روح العبادة على شكلها. وفي المساجد لا تصبح الأولويّة لفقه العبادات، بل لعيش العبادات، وبهذا لا نحوِّل الجوهر إلى صورةٍ.

وفي مقابل ذلك، يحدث تضخيمٌ سلبيّ آخر، وهو الذهاب نحو الجوهر ونسيان الصورة. وهذه هي بعض النزعات الصوفية الانعزاليّة، التي غيَّبت الشريعة لصالح الطريقة، ولم تدرك أنّ المساهمة في تنظيم شؤون الاجتماع البشري تنظيماً أخلاقيّاً هو مقصدٌ من مقاصد الدين، وأنّ البشر ليسوا على مستوىً واحد من الأداء الروحي. لهذا فهم يحتاجون إلى بيئةٍ اجتماعيّة حاضنة لنموّ الحياة الروحيّة فيها، والطقوس في وجودها الأصليّ تمثِّل هذه البيئة الحاضنة.
ومن خلال هذا كلِّه نتفادى تحويل الجوهر إلى صورةٍ، والصورة إلى جوهرٍ، ونتفادى التضحية بهما أو بأحدهما. لكنّنا نميِّز بين الوسائل والمقاصد، وندرك أنّ الصورة الطقوسيّة للعبادات هي وسائل وضعها الدين للوصول إلى مقاصد، وأنّ المقاصد هي المطلوب الأصلي، دون أن يعني ذلك إمكان التخلّي عن الوسائل؛ إذ قد تكشف الشريعة أحياناً عن حصريّة الوسيلة المُفْضِية إلى المقصد.

هذا ما يُنتج لنا أنّ الفقه وعلوم الشريعة لم يَعُدْ يمكن تقديمهما بمعزلٍ عن التربية الروحيّة، والعكس صحيح. وإنّ ما نعيش الكثيرَ منه اليوم من فصل الشريعة عن الروح هو الذي يفضي إلى حصر الشريعة بمخاطبة الجَسَد، وتنظيم مادّيات الحياة. وهذا ما يتطلَّب إعادة تكوين العلاقة بين الأخلاق والفقه. فعلاقة الجفاء أو التجاهل النسبيّ القائمة بين الطرفين غير مفهومة.
وبناءً عليه إذا تحوَّلت العبادة في الدين إلى مفهومٍ روحيّ عميق، يستجيب لحاجات الإنسان الباطنيّة، ولتفريغ كلّ طاقاته السلبيّة بالجلوس بين يدي الله سبحانه، دون أن نهدر قيمتها الصوريّة التي يكفلها لنا الشرع الحنيف، فنحن بذلك نقدِّم صورة طقوسيّة إيمانيّة للدين أكثر قدرةً على النفوذ في حياة الفرد المعاصر.. إنّ هذه العبادة تسكِّن الآلام، وتفتح علاقةً حُبِّية مع الله سبحانه، وتستجيب لحاجات الفرد بالعشق؛ لأنّ العشق هو روح الحياة، وبدل أن يظلّ العشق إنسانيّاً ـ ولا مانع من الحبّ بين أفراد البشر أبداً، بل هو مطلوبٌ ـ هاهو الآن يدخل في علاقة بين الإنسان والوجود كلّه (الله).

هذا الحبّ المطلق هو الذي يصنع المعجزات. إنّه هو الذي يفسِّر لنا التضحيات التي تفوق الخيال، والتي صنعها الأنبياء والأولياء والقدّيسون والشهداء عبر التاريخ، وهو الذي يجعل الفرد يحسّ باللذّة في موقع آلامه الجسديّة ومعاناته الدنيويّة. لقد تغيّرت قواعد اللذّة هنا، فتسامت وحقَّقت استجابةً أكبر للفرد نفسه.
إنّ العقل قد لا يمكنه أحياناً هنا أن يفهم سلوك العاشقين، الذي قد يبدو له جنونيّاً؛ لكنّ العشق الذي يطلبه الإنسان الحديث اليوم؛ لأنّه يخلق فيه سكرةً ونشوةً، هذا الحبّ يتجلّى بأعلى صوره في محبّة الله سبحانه. لكنّ المؤسف أنّ بعضَ تربيتنا الدينيّة وبعضاً من خطابنا الديني لا يقوم على الحبّ لله سبحانه، بل على طاعته بوصفه أباً كبيراً آمراً.
 

لستُ أريد أن أتجاهل مكوّنات الصفات الإلهية من الجلال والجمال معاً، بقدر ما أريد عدم تجاهل صفات الجمال الإلهيّة، وعدم تجاهل العلاقة الحُبِّية مع الله سبحانه.
الدين والاغتراب، نحو إنتاج مفهوم الطاعة الحُبِّية
ولكي أجلي فكرتي أكثر هنا أودُّ الحديث عن موضوع الاغتراب. فنحن نعرف أنّ هيجل(1831م) رُبَما يكون أوّل فيلسوف في العصر الحديث استخدم مفهوم الاغتراب بما يتضمَّنه من انعزالٍ وانفصال، ويعني عنده تضييع الإنسان لشخصيّته الأولى الحقيقيّة لصالح شخصيّةٍ مزيَّفة تُصنع له صنعاً. ثمّ جاء كارل ماركس(1883م) ليطبِّق هذا المفهوم في سياقه الاجتماعي ـ الاقتصادي، عندما اعتبر أنّ استغلال الطبقة العاملة من قِبَل البرجوازيّة يجعل العامل في نوعٍ من الاستلاب والاغتراب؛ لأنّه يعمل لتحقيق غايات غيره، فيفقد بذلك ذاته، ويصبح وجوداً هَشّاً.

القضيّة هنا تكمن في أنّ الإنسان (الفرد أو الجماعة) عندما يغترب فهو يقوم بممارسة سلوكٍ أو الإحساس بوضعٍ يبدو فيه أنّه غير منسجم. فهو يفعل ما يريده الآخرون، وهو يكوِّن هويّته ـ بالمفهوم الوجودي ـ التي يريدها الآخرون، فهو متشظٍّ غير منسجم في ذاته، وهو متكثِّر غير متَّحد. وبهذا يتلاشى وينتهي؛ لأنّه يحقِّق الهويّة التي يراها الآخرون فيه. فكأنّ الإنسان يعايش ذاتاً غريبة عنه هي التي ينحتها الآخر له، فلا يبدو منسجماً مع ذاته، ولا متوالماً أو متصالحاً معها، بل ذاتُه مُصادَرةٌ تماماً.
وثمَّة الكثير من القراءات حول كون الاغتراب قَدَراً يواجه الإنسان، أو هو أمرٌ قابل للمواجهة. كما ثمَّة الكثير من المواقف في أنّ العصر الحديث هل عزَّز اغتراب الإنسان أو أنقصه؟ لكنّ الشيء المؤكَّد أنّ حياة الإنسان المعاصر بدأت تشعر بالكثير من الضغط تجاه قضيّة الاغتراب، واتّجه الإنسان لكي يحقِّق ذاته بذاته، وينهي الانفصام الذي يعيشه.

وسؤالي هنا: هل يمكن للدين اليوم أن يساعد على رتق الفتق وردم الهوّة وتخفيف الاغتراب، دون أن يضحّي بالفقه والقانون الشرعيّين، مع قناعتي بأنّ الخروج من كلّ أشكال الاغتراب تماماً أمرٌ غيرُ مقدورٍ للإنسان في هذه الدنيا، إلاّ مَنْ رحم الله؟ هل يمكن لنا أن نقدِّم حلاًّ ممكناً؟
في تقديري هذا ممكنٌ، وذلك عبر:
إحياء معنويّة (الحبّ والتسليم)، وأعني بها صناعة التديُّن القائم على عشق الله تعالى، وفي الوقت عينه التسليم له. ولكنّ هذا التسليم هنا ليس استلاباً في وعي المؤمن العارف، بل هو إحساس الفرد بتكامله الحقيقي، في ظلّ الاندماج مع الوحدة المطلقة لله تعالى..، وعودة الكثرة إلى هذه الوحدة. فهذا الاندماج يحقِّق الرضا والطمأنينة بالقضاء التكويني والتشريعي لله سبحانه، وهو اندماجٌ مستبطَن في مفهوم (الإسلام)، الذي ركَّز عليه القرآن الكريم.
إنّ السير نحو الله عبر مفهوم الطاعة الحُبِّية يصل بالإنسان للتسليم المطمئن، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ (الحجرات: 7). فالإيمان فعلٌ حُبِّي، والابتعاد عن الكفر انبعاثٌ باطنيّ ناتج عن كُرْهٍ، ولهذا كان الاتّباع متفرِّعاً على الحُبّ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران: 31). وكانت غاية الإيمان تحصيل أعلى مستوى من الحبّ في القلب، وهو حبّ الله، فلا حبَّ أعلى في قلب المؤمن من حبِّه تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ…﴾ (البقرة: 165)، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).

إنّ هذا كلَّه معناه أنّ الإنسان بات يشعر بأنّ تسليمه لله سبحانه ـ لا غير ـ هو في نفسه يحمل مصلحةً سلوكيّة، بمعنى أنّ السلوك التسليمي نفسه يحمل مصلحة، ويعطيه ترقِّياً وتسامياً وجوديّاً، وبهذا يصبح الإنسان في تسليمه الحُبِّي متّحداً بالله سبحانه، وليس تسليمه تسليم متمرّدٍ مقهور. إنّه تسليم طاعةِ عاشقٍ، إنّه بذاته انتماءٌ واكتسابٌ لهويّةٍ، وليس تسليم مقهورٍ مغلوبٍ على أمره، منفصم في شخصيّته، كما قال سبحانه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِي مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء: 65)، وكما جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن أبي طالب× أنّه قال: إلهي كفى لي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً…. إنّ الإيمان ليس اعتقاداً ذهنيّاً، بل هو فعلٌ روحي. إنّه تسليمٌ لا ينفصل فيه الجسد المطيع عن النفس، فالنفس وهي تسلِّم لا تجد حَرَجاً في أعماقها، بل هي منسجمةٌ تماماً. إنّه تسليم يجد الإنسان فيه ذاته، فيفتخر ويشعر بالعزّة، ولا يفقدها، لكنّه يجدها واعياً لها، لا واهماً. بل بهذه الوحدة مع الله المنبثقة من التسليم الحقيقي يولد الإنسان ولادةً جديدة إلهيّة، تسمح له بأن يكون مهيمناً على الأشياء المحيطة. فهو زاهدٌ فيها زهد المستغني، سواء امتلكها ملكيّة الغنيّ، أو فقدها فقدان الفقير. وبهذا تصبح المصائب محبوبة أكثر من اللذائذ، وليست قاهرةً للعبد، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (يوسف: 33).

وبهذا يتحرَّر الإنسان أيضاً من الخوف والقلق الدائمَين القابعين في أعماقه، حتى وهو يملك ملذّات الدنيا كلّها، خوف من المستقبل ومن المتغيِّر، وتحلّ الطمأنينة القائمة على تجلّي جمال الله في قلبه وما يحيط به، وهو يعيش حُسْنَ الظنّ بالله، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28). أليس هذا ما يريده الإنسان المعاصر؟!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة