علمٌ وفكر

الكرامات: يُقرّها الدّين، ولا يَأباها العقل

 

الشّيخ محمّد جواد مغنيّة
فرقٌ بعيدٌ بين ما يُحِيلُه العقلُ ويَجزمُ بِعدَمِ وُقوعِه، وبين الّذي يَتعجَّب منه بعد وقوعه. مثلاً، إذا قال لك قائلٌ: الأسود أبيض، والموجود معدوم، والواحد أَكثر من الاثنَين، والعشرة أقلّ من الواحِد، فإنَّ عقلَكَ يَرفض هذا بمجرَّد سماعِه، وبدون توقُّف، لأنَّه مَحالٌ في نفسه، مُمتنعٌ في ذاته. أمّا إذا سمعْتَ رجلاً يُخْبِر بالمغيّبات، أو يقرأ الأفكار على واقعها فإنّك لا تُنكِر عليه، ولكنّك تتعجَّب منه لأنّه أتى بِغيرِ المُعتاد والمألوف.

القرآن الكريم والمعجزات
لقد أَكْبَرَ القرآنُ العقلَ، وأجلَّه أيّ إجلالٍ، واعتَبَرَهُ أساساً للتّفكير بخلقِ الإنسان، والسَّماوات والأرض، ودليلاً للإيمان باللهِ وكُتُبِه ورُسُلِه. وفي الوقت نفسه نسبَ للأنبياء معجزاتٍ خارقةً للعادة، كقصّة عُزَيرٍ النّبيّ الّذي أحياه الله بعد أن أماتَهُ مائة عامٍ، وأبقى طعامَه على ما كان لم تغيِّره السُّنون، وحكاية إبراهيم الخليل عليه السلام مع الطُّيور الأربعة، وكيف أتَت إليه سَعياً بعد أن قطَّعهُنَّ وفرَّق أجزاءهنَّ على الجبال، وكَعصا موسى عليه السلام الّتي انقلبت حيَّةً تَسعى، وكإبراء عيسى عليه السلام الأكْمَهَ والأبْرَص والأعمى، وإحيائه الموتى، وكمحاربة الملائكة مع الرَّسول الأعظم خاتَم النّبيّين صلّى الله عليه وآله، ورَمْيه الحصى والتُّراب في وجوه المشركين، حيث كانت الرَّميةُ سبباً لهزيمتِهم وانتصار المسلمين عليهم. وذَكَر القرآنُ الكريمُ أيضاً كراماتٍ للأولياء، كَحمل السّيدّة مريم عليها السلام بلا دَنسٍ، وقصّة أهل الكهف، وقصّة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام في عرش بلقيس، وقول ابن برخيا كما أخبرنا المولى عزّ وجلّ: ﴿..أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ..﴾ النّحل:40، وما إلى ذلك من خَوارِق العادات الّتي جاءَ ذكرُها في الكُتُب السّماويّة، ولو كانت مَحالاً لم يُخبِر القرآنُ عن وقوعها، ولم تَتقبَّلها عقولُ الملايين عبرَ القُرون والأجيال.
بل إنَّ القرآنَ المجيدَ قد أثبتَ السِّحر: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ..﴾ البقرة:102.

الكرامات
وعلى هذا فإنَّ حصولَ الكرامات على أيْدي الأولياء أمرٌ ممكنٌ يُقرُّه الدِّين ولا يأباه العقلُ، وقد فرَّق علماءُ الكلام بين المعجزة والكرامة بأنَّ الأولى يُشترَط فيها التّحدّي، كأنْ يقول النّبيُّ لِمَن بُعِث إليهم: «إن لم تَقبَلوا قولي فافعلوا مثل هذا». أمَّا الثّانية، وهي الكرامة، فلا يُشترَط فيها التّحدّي.
اعتراض: وقد يَعترض البعضُ بأنَّ الحوادث المحسوسة لا بدَّ أن تَخضعَ لأسبابٍ مادّيّة، وعِلَلٍ طبيعيّة، ومعجزاتُ الأنبياء وكرامات الأولياء تَتنافى مع قانون الطّبيعة ومبدأ العِلِّيّة القائل: إنَّ لِكُلِّ حادثةٍ سبباً، وإذا انتقض هذا المبدأ فلا يُمكن الاعتمادُ على أيّة نظريّةٍ فلسفيّةٍ، وقانونٍ علميٍّ، لأنَّ كلّاً من الفلسفة والعلوم يَرتكز على نظام العلَّة والمعلول الطّبيعيَّين، وبالتّالي يَثبت القول بالاتّفاق والصّدفة الّتي أَبطلَها العلمُ ورَفضَها العقلُ، وعليه يكونُ القولُ بالمعجزات والكرامات باطلٌ من الأساس.
الجواب: إنَّ القول بالصّدفة باطلٌ من غير شكٍّ، ومبدأ العلّيّة والسّببيّة حقٌّ لا رَيب فيه، ولا يمكن نقضُه في حالٍ من الحالات، ولكنَّ الحوادث الطبيعيّة لا يجب أن تكون عِلَلُها وأسبابُها أبداً ودائماً طبيعيّة، كيف وعلَّةُ الطّبيعةِ بمجموعِها قوّةٌ تمكنُ وراءَ الطّبيعة، وقدرةٌ تتصرّفُ فيها كيف تشاء ومتى تشاء؟! وإرادةُ الله سبحانه قد تعلَّقت بالمعجزة والكرامة ابتداءً، وبلا توسُّطِ سببٍ طبيعيٍّ، وبهذا كانت خارقةً للمعتاد.
وقد جاء في الكتاب العزيز: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يس:82،﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..﴾ البقرة:186. واستجابة الدُّعاء قد تكون بتَهيِئَة الأسباب العاديّة، وقد تكون لمجرّد الإرادة القدسيّة، بحيث يكون السّبب الأوّل والأخير هو إرادة الله وحدها، وجاء في الحديث الشّريف: «إنَّ للهِ عباداً متَى أرادوا أراد».

وقد شاهدنا أفراداً أُصيبوا بداءٍ أجمعَ الأطبّاءُ الاختصّاصيّون على أنّه مُميتٌ لا علاجَ له، ثمّ برأوا فجأةً من دون تَطبيب، وسمعنا عمَّن أُصيب بضرباتٍ قاتلة، ومع ذلك بقي سالماً مُعافاً، ولا سبب إلَّا مشيئةُ الله. فكما يوجِدُ اللهُ الأشياء بأسبابها الطّبيعيّة فإنَّه قد يوجِد شيئاً لمجرَّد الإرادة، ومن دون سببٍ ظاهرٍ لِحكمةٍ يَعلمُها هو، ونَجهلُها نحن، وحتّى السَّبب الطّبيعيّ لا يؤثِّر أَثَره إلّا بإرادته تعالى، فالنّار سببٌ للإحراق، والسُّقوط من شاهقٍ سببٌ للهلاك، ولكن بشرط أن لا يريد اللهُ عكسَ ذلك، وبتعبيرٍ ثانٍ أنَّ الأسباب الطّبيعيّة تقتضي التّأثير إذا أرادها اللهُ كذلك، فإذا انتَفَت إرادتُه انتَفَى التَّأثيرُ قهراً.
وبالتّالي، فإنَّ كلَّ مَن يَعترف بِوُجود قوَّة مُدَبِّرةٍ وراء الطّبيعة، يلزمه حتماً أنْ يعترف بالمعجزات والكرامات، لأنَّ مَن أوْجَدَ الطّبيعة بكاملها بدون سببٍ طبيعيٍّ، فأَوْلى أنْ يوجِدَ بعضَ أشيائها كذلك. أمّا مَن يُنكِر الخالِق الحكيم، فلا كلامَ لنا معه -هنا - ونُحيلُه على كتابنا (الله والعقل).
مِمَّا نُسِب إلى الصُّوفيّة

ولكن هناك مِن الكرامات الّتي نُسِبَت إلى شيوخ الصُّوفيّة، ونحنُ على علمِ اليقين بأنَّ بعضَها نُسِبَ إلى رجالٍ لا عهدَ لهُم بها ولا عِلم، وبعضَها الآخَر انْتَحَله مُدلِّسون للتَّمويه على البُسَطاء والبُلَهاء. وقد وَضع القُدامى العديدَ من المجلَّدات الضَّخمة في أمثال هذه «الكرامات» وأكثرُها مطبوع. وكان انتِشارُ هذه «الكرامات» المزعومة عاملاً قويّاً في القضاء على التّصوُّف والمُتصوِّفين، فلقد كان لهم مَكانةٌ في القلوب، ووَجاهةٌ عند النّاس، ثمَّ انْتَكَسوا وضَعُفَ أمرُهم، حيث انتَسَب إليهم الأدعِياء الّذين تَجاوزوا كلَّ حدٍّ في الكذبِ والتَّدليسِ، فبَعد أنْ كانت الكراماتُ معقولةً مقبولةً، كاستِجابةِ الدُّعاء في شفاءِ مريضٍ، والنَّجاة من بعض المخاطر، وما إلى ذاك، ممَّا يتَّفق للصَّالحين وغيرهم، من ذوي النَّوايا الحسنة، أصبَحَت من النَّوع الّذي ينفرُ منه السَّمعُ، ويَأباه الطَّبعُ.
ومن الأسباب الّتي عجَّلت بانقراضِ الصُّوفيّة، انغماسُ المُنتَمين إليهم في المحرَّمات والشَّهوات، وظهورُ أمثالِ القلندريّة [من الطُّرُق الصُّوفيّة الّتي تُبيح المسكرات]، حتّى لم يبقَ معنًى للتَّصوُّف عند هؤلاء ومَن إليهم إلَّا التَّكدِّي واستعمال البنْج والأفيون.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة