قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

محبّة الله في نظر القرآن الكريم (2)


الشيخ محمد مصباح يزدي

حبّ الإمام السجّاد (عليه السلام) لربّه
وهذه طريقة بسيطة، وسنتطرّق في بحوثنا القادمة إلى قضيّة أنّ أسهل الطرق لتنمية حبّنا لله هي التفكّر في آلائه. أوليس الذي أنعم علينا بكلّ هذه النعم محبوباً؟! لكنّنا إذا حلّلنا هذا النمط من الحبّ جيّداً للاحظنا أنّنا في هذه الحالة إنّما نحبّ لَذّاتنا بدايةً، وإنّنا نحبّ الله من حيث إنّه يعطينا ما نلتذّ به من النعماء. لكن هل يمكن أن يبلغ المرء في هذا المضمار إلى مقام يحبّ فيه الله بما أنّه هو الله؟ فإنّنا نعثر فيما لدينا من تراث الأدعية والمناجاة على ما نصّه: «إلهي! وعزّتك وجلالك لو قرنتني في الأصفاد... وأمرت بي إلى النار، وحُلْتَ بيني وبين الأبرار، ما قطعتُ رجائي منك... ولا خرج حبّك عن قلبي»[5]. لكنّ إمامنا زين العابدين (عليه السلام) هو مَن يعلن هذا اللون من الحبّ، وليس في ميسورنا ادّعاء مثله بهذه البساطة. فلتتخيّلوا بدقّة أنّهم اقتادونا في أوّل ليلة بعد نزولنا في القبر أو في يوم القيامة إلى جهنّم، فهل يا ترى أنّنا سنحبّ الله ونحن في مثل تلك الحالة؟! لكنّ الآيات القرآنيّة وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) تحدّثنا عن أنّ هناك عباداً يحبّون الله تعالى من أجله هو فحسب. ولعلّ بمقدورنا، من خلال التعمّق في الآيات والروايات والأدلّة العقليّة، أن نشمّ ولو نسمة من كيفيّة هذا الضرب من الحبّ، وصحيح أنّ المرء مالم يصبح هكذا، فإنّه لن يدرك كُنْه هذا الحبّ، غير أنّ مجرّد أن يبذل الإنسان جهداً لنيل ذرّة من هذه المحبّة فهو مَغْنَم عظيم.

ابتهاج الله بذاته
نعود الآن إلى تعريف المحبّة ونقول: إذا كان المراد من المحبّة هو حُبّ المرء شخصاً أو شيئاً آخر، فإنّه لا يعود لمحبّة الذات معنىً حينذاك. ولابدّ أن نُذكّر هنا بأنّ قولنا: «نحن نحبّ أنفسنا» إنّما يعود إلى أنّنا نرى نوعاً من الاثنينيّة بيننا وبين أنفسنا؛ فمرادنا من «نحن» هو روحنا المدرِكة، أمّا ما نقصده من «أنفسنا» فهو أبداننا. لكن فلنطرح هذه الشبهة بشكل آخر وبصورة أدقّ، وهو أنّ عين هذا الشخص الذي يقول إنّه يحبّ ذاته، فإنّه يحبّها حتّى وإن لم يدرك شيئاً اسمه «بدن». وهذا التساؤل مطروح أيضاً في مراتب أعلى فيما يتعلّق بالله سبحانه وتعالى، وهو: هل يمكننا القول: «إنّ الله يحبّ ذاته»؟
لقد ذكر بعض العلماء وأهل المعقول في هذا الخصوص: إنّ أسمى لون من ألوان الحبّ في الكون هو حبّ الله ذاتَه، وإنّ كلّ أشكال المحبّة الأخرى إنّما هي شعاع من تلك المحبّة. يقول المرحوم الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ، في حاشيته على «كفاية الاُصول» في باب الطلب والإرادة: إنّ أعظم ابتهاج عند الله عزّ وجلّ هو ابتهاجه بذاته. ولعلّ التعبير ﺑ «الابتهاج» يسمو قليلاً على لفظة «المحبّة»؛ فهو لا يحبّ ذاته فحسب، بل ويبتهج بها أيضاً[6]. أجل! فقد ساق بعض عظمائنا تعابير من هذا القبيل. لكن بالطبع هناك أيضاً من يقول في المقابل: هذا كلام غير صحيح، ولابدّ من القول بوجود مضافٍ محذوف أو بالمجاز. بل لقد ذكر قوم آخرون: كما جاء في الخبر بأنّ المراد من عبارة: «آسَفُونَا»، أي «أغضَبونا»، في قوله تعالى: «فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ»[7] هو «أغضبوا أولياءنا»، فلابدّ من القول فيما يتّصل بمحبّة الله: إنّ المقصود هو محبّة أولياء الله تعالى، فالله ليس ممَّن يُحَبّ. لكنّه هناك مَن يؤمن أيضاً بأنّ أحَبَّ موجودٍ في الكون هو الله جلّ شأنه، وأنّ أرقى درجات المحبّة هي محبّته جلّ وعلا لذاته، وأنّ جميع أنماط المحبّة الأخرى إنّما هي شعاع محدود من تلك المحبّة غير المتناهية التي يكنّها الله لذاته.

المحبّة والانجذاب
في ميسورنا القول إنّه: عندما يحبّ المرء شيئاً يتولّد في نفسه إحساس يجذبه نحو ذلك الشيء. ومن هذا المنطلق يمكننا اعتبار أنّ المحبّة هي شكل من أشكال الانجذاب الروحيّ. فكما يجذب المغناطيس الأشياء الحديديّة، فإنّ المحبّة هي حالة من الانجذاب تصيب قلب الإنسان فتجذب روحه وقلبه باتّجاه محبوبه. وهنا يرد سؤال مفاده: كيف تحصل للإنسان هذه الحالة من الانجذاب إلى بعض الأمور؟ وهل هي محض صدفة، أم إنّها تستبطن حكمةً ما؟
من الجليّ أنّ بعض الحالات لا تكون باختيار المرء؛ فحبّ الأمّ لولدها مثلاً خارجٌ عن اختيارها كما يبدو، إذ ليست القضيّة أنّ الأمّ تفكّر بأنّه من الأفضل أن تحبّ ولدَها، ثمّ تقرّر الشروع بحبّه. فهي لا تستطيع أساساً أن لا تحبّه، بل وكأنّها هي غير مختارة في هذا الأمر. لكن هل يمكن أن يصنع المرء اختياراً ما يجعله يحبّ؟ وهل بالإمكان تقوية المحبّة أو إضعافها اختياراً؟ فعلى الرغم من أنّ الانجذاب القلبيّ هو أبسط تعبير يمكن استعماله بالنسبة للمحبّة، لكنّه لا يفصح أحياناً عن حقيقة المحبّة كما ينبغي، وهو لا يخبرنا عن حقيقة هذا الانجذاب وماهيّته أيضاً. فلو عثر المرء على سرّ هذا الانجذاب، لحصل على مفتاح من شأنه أن يحلّ الكثير من المسائل الأخرى التي سيأتي ذكرها لاحقاً.

المحبّة وإدراك اللذّة
إنّنا عندما نحبّ شيئاً، مثلما إذا كان طعاماً أو لوحة فنّية أو زهرة جميلة مثلاً، فذلك يعني أنّنا سنشعر بالنشوة عند اتّصالنا بذلك الشيء أو اجتماعنا معه. فإذا كان الأمر كذلك فإنّنا سننجذب إليه، وإلاّ فلا. فلو افترضنا أنّ أحد شخصين يحبّ لوحة فنّية بينما لا يدرك الثاني، الذي لا يملك أيّ حسّ فنّي، مكمن الجمال فيها، فإنّ انجذاب الأوّل إلى اللوحة يعود إلى التذاذه بها، وسبب عدم انجذاب الثاني إليها هو عدم شعوره بهذه اللذّة. وهاهنا يُطرح سؤال: لماذا يلتذّ الأوّل باللوحة ولا يلتذّ الثاني بها؟ وهذا السؤال يُطرح بالنسبة لكلّ شيء يحبّه الإنسان. فالمرء سيبني مع ما يحبّه علاقة تؤدّي إلى التذاذه به. بالطبع إنّ محبّتنا محدودة بالاُمور التي نعرفها نوعاً ما أو نشعر بالنشوة تجاهها. وذات الشيء يصدق على عدم حبّ الناس لأمرٍ ما، وهو أنّ شعوراً كهذا لا ينتابهم؛ فإمّا أنّهم لا يدركون جماله، أو إنّه – من باب الصدفة - لا ينسجم مع ذوقهم، فلا يشعرون باللذّة تجاهه. إذن لابدّ من إضافة قيد اللذّة إلى تعريف المحبّة والقول: المحبّة هي انجذاب المرء إلى ما يلتذّ بوَصْله. ونُضيف أيضاً: إنّ الالتذاذ يقتضي وجود تناسب بين الـمُدرَك وبين قوى المرء الإدراكيّة. ففيما يتّصل بحاسّة الذوق مثلاً نرى أنّ بعض الناس يحبّون طعاماً معيّناً قد لا يحبّه آخرون. إذن فلابدّ من تناسبٍ بين حاسّة الذوق والطعام الـمُذاق كي تحصل اللذّة. وهنا مكمن التغاير بين الناس في فهمهم للجمال، وهي قضيّة تصدق حتّى على الحيوانات أيضاً؛ فبعض الحيوانات قد تبعث رؤيتها الاشمئزاز في نفوسنا، لكنّ بعضها يحبّ البعض الآخر، بل وتلتذّ لرؤية بعضها البعض. وعلى هذا فإنّ التعريف المبسّط للمحبّة هو الانجذاب إلى ما يتناسب مع قوى الإنسان الإدراكيّة ويلتذّ المرء به.

محبّة الله والانجذاب
التعريف الآنف الذكر يختصّ بألوان المحبّة العاديّة التي يمارسها المرء. لكنّ السؤال «ما معنى انّني أحبّ نفسي؟» ما زال من دون إجابة، وهو سؤال يُطرح حتّى بالنسبة للباري جلّ وعلا. بل ثمّة سؤال آخر أيضاً هو: أساساً كيف يحبّ الله أمراً؟ أوَيمكن أن يشعر الله بالانجذاب؟ فالانجذاب هو انفعال وضعف وتأثّر، والله لا يقع تحت تأثير شيء ما. فالانجذاب يصدق عندما تكون ثمّة جاذبيّة تجذب الطرف الآخر نحو الجاذب. فلو أحبّ الله شيئاً بهذه الصورة، لحصل له الانفعال، وهو محال على الله. وشبيه بهذا المضمون نقرأه في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) حينما يقول: «إلهي! تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك، فكيف يكون له علّة منّي»[8]؛ وهو مبحث غاية في علوّ المضمون. فطالما نقول في حواراتنا: نفعل كذا لنرضي الله! لكنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يقول في يوم عرفة: إلهي! لا يسعني أن أقول: إنّك ترضي نفسك، فما بالك بالقول: إنّني أرضيك! فإذا كانت المحبّة بمعنى الانجذاب، فهل إنّ حبّ الله شيئاً يعني تأثّره بذلك الشيء؟! وهل ينجذب الله إلى أمرٍ ما يا ترى؟! وللردّ على مثل هذه المفاهيم العقليّة الدقيقة هناك عادةً بضعة طرق متعارفة. أحدها هو قول بعضهم: نحن لا نفقه أيّ شيء في هذا المجال، وعلينا التزام الصمت. وقد أراح أصحاب هذا الرأي أنفسهم من عناء البحث وألغوا الموضوع من الأساس. أمّا أصحاب الطريق الثاني فيقولون: هذه التعابير مجازيّة. فهؤلاء يقولون بشكل من أشكال التجوّز في هذا الباب ويلجأون إلى نمط من الفنون الأدبيّة لحلّ مشكلة الألفاظ.
وأمّا أهل الدقّة والتمعّن في هذا الوادي فقد توسّعوا في بحث هذه المفاهيم وقالوا: ليس لنفس الانجذاب موضوعيّة، بل إنّ المطلوب هنا هو الاتّصال. وحتّى الاتّصال فإنّه لا يحصل إلاّ عندما يكون ثمّة اثنينيّة، أمّا عند غياب الاثنينيّة، فتحلّ الوحدة محلّها. فالله هو وجودٌ واحد يتّسم بالكمال، وهو بذاته يحبّ ذاته.

عينيّة ذات الله وصفاته
إنّ صفات الله تعالى هي عين ذاته، وليست خارجة عنها، وإنّ ما نشاهده نحن من التعدّد في هذا المجال يعود إلى نقصٍ في وجودنا. فكلّما كمُل الوجود أكثر، صار أكثر انسجاماً وبساطةً، وأصبح علمه عين حياته، وحياته عين قدرته. فعلم الله، ومحبّته، وكماله كلّها شيء واحد.
إذن فالمحبّة هي ضرب من الانجذاب، أو الارتباط، أو الاتّصال بموجودٍ ما؛ سواء أكان هذا الموجود ذاته، أم هو موجود آخر يُعَدّ كمال الوجود. فإذا تحقّق الكمال، التذّ به كلّ موجودٍ يمتلكه، هذا إذا عرف أنّه «كمال». من هذا المنطلق فإنّنا إذا رغِبْنا في محبّة الله، فما علينا إلا أن نتعرّف - على قدر ما ترقى إليه عقولنا - على كمالات الله عبر الطريق التي حدّدها هو نفسه، وأن نحاول اكتساب القدرة على إدراك الكمال. بالطبع هناك شروط أخرى لذلك سنتعرّض لها فيما بعد.

هذه الأشكال من المحبّة هي اختياريّة. لكنّ الله، بطبيعة الحال، قد أودع معادنها في كياناتنا. أمّا إيصالها إلى مرحلة الوعي، وتفجيرها، والإفادة والانتفاع منها فقد تُرك لاختيارنا نحن، وإنّه يتعيّن علينا نيلها عن طريق تقوية المعرفة وتوفير الشروط.
ــــــــــــــــ
[5]. عدّة الداعي ونجاح الساعي، ص34.
[6]. الابتهاج هو حالة تُعدّ من لوازم المحبّة ودواعي نيلها.
[7]. سورة الزخرف، الآية 55.
[8]. إقبال الأعمال، ص349.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة