قرآنيات

سنة الاختلاف في المنظور القرآني (2)


السيد منير الخباز
النقطة الثانية: الهدف من الاختلاف.
لماذا جعل الله الاختلاف؟ لماذا جعل الله البشرَ مختلفين؟ لماذا لم يجعلهم متساوين؟ لماذا خلق البشر مختلفين؟ كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، يختلفون في طرق التفكير، يختلفون في القدرات، يختلفون في المناهج، يختلفون في المواهب، يختلفون في الطبائع، يختلفون في الملكات، فما هو الهدف من جعل البشر مختلفين؟
الهدف هو بناء المجتمع، لولا اختلاف البشر لما بُنِي المجتمع. ذكرتُ في ليالٍ سابقة أن علماء الاجتماع يقولون: بذرة المجتمع هي نظرية الاستخدام. لو أن الله «تبارك وتعالى» أعطى لكل إنسان قدرة مطلقة، لاستغنى الإنسان عن الإنسان الآخر، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، ليس المقصود بالاستغناء هو الثراء، بل المقصود الاستغناء عن الناس في القدرات، الإنسان إذا رأى نفسه مستغنيًا عن الآخرين فإنه يطغى. الله «تبارك وتعالى» شاءت حكمته أن يجعل البشر مختلفين، هذا يملك قدرة مادية، هذا يملك قدرة عقلية، هذا يملك قدرة جسمية، هذا يملك قدرة بيانية ولسانية.
كل واحد يمتلك نوعًا من القدرة، كل واحد يمتلك نوعًا من الموهبة، وزّع القدرات والمواهب بين عباده لكي يحتاج بعضهم إلى البعض الآخر، ولو جعلهم متساوين لما احتاج كل للآخر، وإذا لم يحتج كل للآخر فإن الكيان الاجتماعي ينهار؛ لأنه قائم على الحاجة. أنا أحتاج إلى المدرس لكي يدرّس أولادي، وأحتاج إلى الطبيب كي يداويني، وأحتاج إلى المهندس كي أبني منزلي، وأحتاج إلى النجار كي يؤثث بيتي.. لولا أني أحتاج إلى الآخرين وهم يحتاجون إلي لما بني الكيان الاجتماعي، فبناء الكيان الاجتماعي قائمٌ على نظرية الحاجة، وهي ما تسمّى بنظرية الاستخدام، كل يستخدم الآخر لقضاء حاجته، هذا ما ذكره علماء الاجتماع.

وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، كل واحد يسخّر الثاني لخدمته، فإذن نحن وزّعنا الأرزاق والقدرات والكفاءات بطريقة مختلفة؛ حتى يحتاج كل فرد للآخر، وحتى يقوم الكيان الاجتماعي. إذن الهدف من الاختلاف بناء الكيان الاجتماعي، ولو كان البشر متساوين لما قام الكيان الاجتماعي.
البعض قد يفهم الآية بفهم آخر، مثلًا: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ﴾، ما معنى دفع الله الناس بعضهم ببعض؟ يعني الحروب؟! البعض يتصور أن معنى الآية هو أن الله هو الذي يريد الحروب حتى كل واحد يدفع الآخر!! لا، ليس المقصود بالدفع عملية الاشتباك والنزاع والحرب، وإنما المقصود بالدفع أن كل إنسان حدٌ للثاني، أنت تحد من قدرتي وأنا أحد من قدرتك، ليست لي قدرة مطلقة وليست لديك قدرة مطلقة، فأنا أحدّد قدرتك وأنت تحدّد قدرتي. لو أعطيت قدرةً مطلقةً لطغيت على الكل، ولو أعطيتَ قدرةً مطلقةً لسحقتَ الكل، إذن أنت لم تُعْطَ قدرةً مطلقةً، وأنا لم أعطَ قدرةً مطلقةً، بل كلٌ منا أعطي قدرةً محدودةً، فأنا أحد قدرتك وأنت تحد قدرتي. الله دفع الناس بعضهم ببعض، أي: جعل كلًا منهما حدًا لقدرة الآخر؛ حتى لا يطغى الإنسان عن الآخر، فلمنع الطغيان والفساد جعل كلًا من البشر محدودًا بالبشر الآخر.

النقطة الثالثة: التعامل الموضوعي مع الاختلاف.
الاختلاف - كما ذكرنا - أمر طبيعي. اختلاف البشر في الدين، اختلاف البشر في المذهب، اختلاف البشر في طرق التفكير، اختلاف البشر في أساليب العمل، اختلاف البشر في الأفكار والآراء أمر طبيعي جدًا، ولا بد أن يكون. اختلاف البشر في طرق التفكير يقتضي اختلافهم في الدين والمذهب، وفي الأفكار والآراء والأساليب، اختلاف البشر أمر فرضته طبيعة البشر، وفرضه تكوين البشر. المسألة: كيف نتعامل مع الاختلاف؟ نحن - المسلمين أو الشيعة بصفة خاصة - كيف نتعامل مع اختلافاتنا الفكرية والعملية والمنهجية؟ كيف نتعامل مع ظاهرة الاختلاف؟ كيف نتعامل مع موضوع الاختلاف؟
نحن مع الأسف قساة جدًا، إذا اختلفنا قسا بعضنا على البعض الآخر، لا نتحمل شيئًا اسمه التعددية أبدًا، لا نتحمل أجواء التعددية، لا نتحمل شيئًا اسمه رأي ورأي آخر، لا نتحمل شيئًا اسمه أنا وأنت، لا نتحمل، نحن لا نريد إلا ”أنا“! وأما ”أنت“ فمصادر، صفر على الشمال! نحن لا نتحمل إلا الوحدوية، لا نتحمل شيئًا اسمه متعدد. إذا اختلفنا فنحن قساة جدًا، وتصل بنا القسوة إذا اختلفنا في الرأي أو في الفكر أن نتعدى على الأطر والقوانين الإنسانية والطبيعية. أعتدي عليك بالسباب، أعتدي عليك بالشتم، أعتدي عليك بالنبذ، أعتدي عليك بالإلغاء النهائي، وقد أعتدي عليك حتى اعتداء جسديًا، ألغيك من الوجود! لأنك تختلف معي في الرأي، وتختلف معي في الفكر، أو تختلف معي في أساليب العمل.

نحن عندنا قسوة في الاختلاف، وهذه القسوة هي سبب تخلفنا. نحن - المسلمين - لماذا متخلفون؟! لماذا يعيش المسلمون تخلفًا؟ لأنه ليس عندهم استعداد للتفكير في الأهداف العامة أبدًا، وليس عندهم استعداد للتفكير في الأهداف العليا المشتركة التي تجمعهم، بل دائمًا ينصب ويتقوقع تفكيرهم في الهدف القريب، الهدف الآني، الهدف الفعلي، الهدف الخاص، لا يوجد انطلاقة وبعد نظر وبعد أفق للأهداف العليا، والأهداف المشتركة، لذلك نحن نعيش قسوة في الاختلاف وحدّة غريبةً.
من مظاهر الاختلاف: الاختلاف بين الشيعة الإمامية، مع الأسف! أبناء المذهب الواحد، أو الجلدة الواحدة، أو المكان الواحد، أو الجسم الواجد، تجد بينهم اختلافًا يتعدى الإطار الإنساني، ويصل إلى أسلوب الوحشية، ويصل إلى أسلوب القسوة والعنف والحدة، فأنا ألغي الآخر وأصفيه حتى أعيش وحدي، وحتى أحقّق ما أريد. وهذا هو مدعاة تخلفنا وتأخرنا وتقهقرنا إلى الوراء، فنحن لا نستفيد من التجارب أبدًا، بل نكرر التجارب مرة أخرى، وبين فترة وأخرى نعيد الأخطاء والمشاكل مرة أخرى، لا نتعلم من التجارب السابقة، ولا من الظروف السابقة، بل نرجع إلى القسوة والحدة عند الاختلاف، إلى أن يلغي بعضها بعضًا، ويصفّي بعضنا البعض الآخر، ويقسو بعضنا على البعض الآخر. بينما إذا رجعنا لمنهج أهل البيت   نجد أنهم يحاولون التعامل مع ظاهرة الاختلاف من خلال بنود وخطوات ليست شرعية فحسب، بل هي إنسانية، ومن أهم الخطوات الضرورية للتعامل الموضوعي مع ظاهرة الاختلاف:

الخطوة الأولى: حسن الظن
هناك أحاديث ونصوص تركز على حسن الظن. القرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾. «لا، هذا يقصدني، هذا ما قال كذا، ولا عمل كذا، إلا وهو يريد أن يلغيني، وأن يقضي على وجودي»!! أين حسن الظن؟! أين هو مبدأ حسن الظن الموجود عند أئمتنا وفي النصوص الشريفة؟! الإمام أمير المؤمنين   يقول: ”احمل أخاك المؤمن على سبعين محملًا من الخير، ولا تظنن بكلمة صدرت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير سبيلًا“، وورد عن الرسول محمد  : ”من اتهم أخاه المؤمن انماث الإيمان من قلبه انمياث الملح في الماء“.
إذن الأئمة يأمروننا بحسن الظن، ولو كنا نعيش أجواء حسن الظن، بأن يحمل بعضنا البعض الآخر على الموضوعية والشرعية.. اختلف معي، لعل عنده بينة شرعية، لعل عنده دليلًا شرعيًا، لعل عنده طريقة شرعية أنا لست مطلعًا عليها، الشرع ليست محتكرًا عندي فقط وليس عند الآخرين، لعل الآخر لديه بينة، لعل الآخر لديه دليل شرعي، لعل لديه طريقًا شرعيًا، الشرع ما انحصر فيَّ أنا. إذن بالنتيجة، حسن الظن خطوةٌ نحو التعامل الموضوعي مع ظاهرة الاختلاف.

الخطوة الثانية: عدم تتبع العورات.
مع الأسف، بعضنا بمجرد أن تصبح عنده علامة استفهام على شخص، لا يسكت ويجلس مرتاحًا، بل يحاول أن يخرج عيوبه، فيتتبعه ويسأل عنه ويفحص ويحقق إلى أن يستخلص مجموعة من العيوب عنه، ومجموعة من الأخطاء عنه، يحاول دائمًا أن يعيش حالة التتبع والتحقيق في شخصيات الآخرين، وفي سلوك الآخرين، وفي أوضاع الآخرين، وهذا يتنافى تمامًا مع روح الأئمة، ومع روح الشريعة، ومع روح الإسلام.
ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، التجسس هو تتبع العورات. وورد عن الرسول محمد  : ”من تتبع عورة أخيه المؤمن تتبع الله عورته، حتى يفضحه ولو في بيته“، وورد عن الإمام أمير المؤمنين  : ”رحم الله عبدًا اشتغل بعيوبه عن عيوب الناس“. بدلًا من أن يركّز على الآخرين وعيوبهم وأخطائهم، يركّز على عيوبه وأخطائه، من أجل أن يصلحها، ومن أجل أن يغيّر من وضعه.

الخطوة الثالثة: عدم الاعتداء على الآخر.
الآخر ما دام مؤمنًا، ما دام رجلًا مسلمًا يؤمن بالله، ليس من اللازم أن يكون إنسانًا متقيًا، بل حتى لو كان فاسقًا، لا يجوز لك الاعتداء عليه، بسباب أو بشتم أو باعتداء جسدي، فقد ورد عن الرسول محمد  : ”سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه، وأكل لحمه معصية“. المسلم له حرمة عند المؤمن، فلا يجوز لك إلا أن تحترمه، ما دام مسلمًا فهو محترم، له حرمة الدم، حرمة المال، حرمة العرض، حرمة الكرامة، ولو كان فاسقًا، ولو كان إنسانًا منحرفًا، فضلًا عما إذا كان إنسانًا مؤمنًا.

الخطوة الرابعة: الحوار.
نحن لا نعالج اختلافاتنا عن طريق الاعتداء، بل نعالج اختلافاتنا عن طريق الحوار. الله «تبارك وتعالى» يقول: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. لاحظوا أئمتنا أئمة الهدى «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». الإمام الباقر عنده مناظرات وحوارات مع ابن أبي العوجاء، مع أنه كان ملحدًا، ولم يكن مسلمًا أصلًا، ومع ذلك إذا أقبل للإمام الصادق، ابتسم له، وجلس معه، وحاوره حوارًا علميًا هادئًا، الحوار الهادئ حتى مع أعدائهم.
الإمام الحسن الزكي   اعترض عليه أناس من شيعته، ومن خُلِّصه، ومع ذلك ما نهرهم، ولا شجبهم، ولا أبعدهم عنه، بل احتضنهم واستوعبهم، وهنا العقلية. إذا كنتَ تملك عقلية ناجحة فعلًا فعليك أن تستوعب وتحتضن من يختلف معك، لا أن تلغيه. إذن بالنتيجة: هؤلاء مع أنهم كانوا يغلون، لكن الإمام الحسن لما أقبلوا إليه هدّأهم، وناقشهم، وحاورهم، ولم يقل: أنا إمام معصوم، وهؤلاء على باطل، فليذهبوا إلى جهنم! بل احتضنهم واستوعبهم، وعاش الاختلاف معهم بطريقة موضوعية، حتى أقنعهم بصحة طريقه.
وهكذا الأئمة من أهل البيت  ، ساروا على طريق الحوار الهادئ الهادف لمعالجة ظاهرة الاختلاف، وأصروا على طريق الحوار إلى النفس الأخير. الإمام الحسين   إلى آخر أيامه، ليلة العاشر من المحرم، بعث رسولًا إلى عمر بن سعد، يريد أن يحاوره، يريد أن يناقشه، وفعلًا أتى عمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وعذرة بن قيس، أتوا إلى الإمام الحسين، والإمام الحسين مع ولده علي الأكبر، ومع أخيه أبي الفضل العباس، جلسوا معهم في خيمة واحدة، وفتح الحسين معهم باب الحوار. ليلة العاشر المسألة حُسِمَت، ومع ذلك الإمام ما ترك الحوار أبدًا، بل فتح معهم باب الحوار، ونصح ابن سعد، وبيّن له الأخطاء، وبيّن له ظلم بني أمية، وبيّن له خطأ طريقه، لكنه أصر على أمره، وأصر على معصيته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة