قرآنيات

التَّسبيح والتَّنزيه

 

السيد موسى الصدر
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}[يس: 36].
في القرآن الكريم، يلتقي الإنسان بآياتٍ تدهش العقل، لما لها من أفكار ومعانٍ، وحتى معلومات تسبق الزمن.
فعندما نلاحظ معنى الآية: التسبيح والتنزيه، وعدم النقص في الخالق الّذي خلق الأزواج، من الطبيعي والمعروف أنّ في البشر أزواجاً، الذكر والأنثى، وكذلك في الحيوانات أزواج. وقد كان الإنسان يعرف من قديم الزمن، بعض الأزواج في النباتات. فكانوا يعرفون أن النخيل له ذكر وأنثى، وكانوا يستعملون التأبير. أما في بقية النباتات، وفي بقية الموجودات، فلم يكن يعلم أحد أن هناك أزواجاً. فالعلم، لم يكن قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم، وهو أنّ في كلّ شيء، وفي كلّ نوع من أنواع الموجودات، إنساناً كان أو حيواناً أو نباتاً، كلّ نبات وحتى في الأجسام، وفي الموجودات غير الحية، وحتى في الهواء، والرياح، والصواعق، والقوى والطاقات الموجودة في الكون، فيها كلّها أزواج.
هذه الآية تقول: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}، ثم فصَّلت الآية: الأزواج موجودة {مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ}، يعني من كلّ شيء تنبته الأرض، نجد فيه أزواجاً. ففي النّخيل معروف، ولكن نحن نعرف أنّ الموجودات النباتية الأخرى: الأوراد، الفواكه فيها ذكر وأنثى. 
في بعض الأشجار، الذّكر والأنثى مختلفان متفرّقان، فهناك نبات ذكر وهناك نبات أنثى. وفي بعض النباتات الذكر والأنثى يجتمعان في وردة واحدة، ويتزاوجان، فتتكون النواة، ثم تتحول إلى البذور أو إلى الفواكه.


إذاً، في جميع النباتات يوجد الزوجان، والزّوجان هما السبب لبقاء النبات، وجنس النبات ونوع النبات على وجه الأرض. إذاً، في كلّ ما تنبت الأرض، خلق الله الأزواج.
{وَمِنْ أَنفُسِهِمْ}. إذا كان المقصود بالأنفس البشر، كما هو الظّاهر، فهنا الأمر واضح، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}، أي من كلّ شيء لا يعلمون أصله، أو تزاوجه. وهنا نصل إلى ما اكتشفه العلم حول الذرّة، وما في الذرّة من الطاقات السالبة والموجبة؛ وتزاوج الطاقات السالبة والموجبة هو المكوّن للمادة. وفي الصّواعق، وفي الكهرباء، وفي الموجودات الأخرى التي تتكوّن من الذرات، ومن الطاقات، نجد هذا التّزاوج قائماً.
والحقيقة أن معنى الأزواج يتخطى نطاق الذكورة والأنوثة في الطاقات وفي الموادّ. والقرآن الكريم لا يقف عند كلمة الذكورة والأنوثة، وإنما يتحدّث عن معنى الأزواج. فإذا قلنا إن الأزواج، ذكر وأنثى، يصحّ أن نقول إن الأزواج أيضاً سالب وموجب.
وعند ذلك، ننتقل إلى المعنويات الموجودة في العالم، والأحاسيس المتقابلة في البشر، التي تتجاوز نطاق الذّكر والأنثى. فهناك الفاعلية والانفعالية في الأخلاق، وهناك القيادة والانقياد في الموجودات وفي البشر، وهناك العطاء والأخذ في كلّ شيء.
هذا التركيب الازدواجي الثابت في جميع الموجودات، أمر معروف علماً وفلسفةً وتجربة. والغريب أنّ هذه الآية القرآنية مثل بقيّة القرآن الكريم، قد نزلت قبل قرون وقرون، وقبل مئات السّنوات من تاريخ اكتشاف هذه الآراء وهذه المعلومات.
وهنا نقف بخشوع وبإيمان أمام هذه الآية الكريمة، لكي تثبت لنا من جديد، أنّ القرآن الكريم كتاب الله، وأنه معجزة من الله، وتوجيه منه، لكي نتنبه ونتأكّد أنّ خالق الدين هو خالق الكون، وأنّ الدّين تصحيح علاقات الإنسان مع الكون، وأنَّ الله هو وحده يتمكن من التشريع، لأنه وحده المطّلع بالحقيقة الكاملة للإنسان، وبالحقيقة الكاملة للموجودات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة