من التاريخ

ملامحُ من سيرة السِّبطِ الأَكبر (1)

 

الشيخ راضي آل ياسين
«لم يكن أحدٌ أشبهَ برسولِ الله صلّى الله عليه وآله من الحسن بن عليّ عليهما السلام خَلْقاً وخُلُقاً وهيأَةً وهَدْياً وسؤدَداً».
بِهذا وصفَه واصفوه. وقالوا: «كان أبيضَ اللّون مشرباً بحمرة، أدعجَ العينَين [الدّعج: أن تكون العين شديدة السّواد مع سعة المُقلة]، سهلَ الخدَّين، كثَّ اللِّحية، جعدَ الشَّعر ذا وفرة [الوفرة: الشَّعر المجتمع على الرّأس أو ما سال منه إلى الأُذُنَين]، كأنّ عُنُقَه إبريقُ فضّة، حَسَن البَدن، بعيد ما بين المنكبَين، عظيم الكراديس [الكردوس: موضع التقاء العَظمَين]، دقيق المسرُبة، ربعة ليس بالطّويل ولا بالقصير، مَليحاً من أحسنِ النّاس وجهاً».
وقال ابنُ سعد: «كان الحسن والحسين يخضِبان بالسّواد».
وقال واصلُ بن عطاء: «كان الحسن بن عليّ عليهما السلام، عليه سيماءُ الأنبياء وبهاءُ الملوك».


العبادة
حجَّ خمساً وعشرين حجّةً ماشياً، والنجائب لَتُقاد معه، وإذا ذكرَ الموتَ بكى، وإذا ذكرَ القبرَ بكى، وإذا ذكرَ البعثَ بكى، وإذا ذكرَ المَمرَّ على الصّراط بكى، وإذا ذكرَ العرضَ على الله -تعالى ذكرُه- شهقَ شهقةً يُغشَى عليه منها، وإذا ذكرَ الجنّةَ والنّارَ اضطربَ اضطرابَ السّليم، وسألَ الله الجنّةَ وتعوّذ بالله من النّار.
وكان إذا توضّأَ، أو إذا صلّى ارتعدتْ فرائصُه واصفرَّ لونُه.
وقاسم اللهَ تعالى مالَه ثلاث مرّات. وخرجَ من مالِه للهِ تعالى مرَّتين. ثمّ هو لا يمرُّ في شيءٍ من أحواله إلّا ذكرَ اللهَ عزّ وجلّ.
قالوا: «وكانَ أعبدَ النّاس في زمانِه، وأزهدَهم بالدّنيا».
 

من أخلاقِه عليه السلام
كان في شمائلِه آيةَ الإنسانيّة الفُضلى، ما رآه أحدٌ إلّا هابَه، ولا خالطَه إنسانٌ إلّا أحبَّه، ولا سمعَه صديقٌ أو عدوٌّ وهو يتحدّث أو يخطِب فهانَ عليه أن يُنهي حديثَه أو يسكت.
وقال محمد بن إسحاق: «ما بلغَ أحدٌ من الشَّرفِ بعدَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ما بلغَ الحسنُ بن عليّ. كان يُبسَط له على باب دارِه، فإذا خرجَ وجلسَ انقطعَ الطَّريق، فما يمرُّ أحدٌ من خلقِ الله إجلالاً له، فاذا علِمَ قامَ ودخلَ بيتَه فيَمرُّ النّاس».
ونزلَ عن راحلتِه في طريق مكّة فمَشى، فما من خلْقِ الله أحدٌ إلّا نزل ومشى، حتّى سعد بن أبي وقّاص، فقد نزلَ ومشى إلى جنبِه.
وقال مدرك بن زياد لابنِ عبّاس، وقد أمسكَ للحسن والحسين بالرِّكاب وسوَّى عليهما ثيابَهما: «أنت أَسَنُّ منهما تُمسِكُ لهما بالرِّكاب؟». فقال: «يا لُكَع! وما تدري مَن هذان، هذان ابنا رسولِ الله، أوَليسَ ممّا أنعمَ اللهُ عليَّ به أن أُمسك لهما وأُسَوِّي عليهما!».
وكان من تواضعِه على عظيمِ مكانتِه أنّه مرَّ بفقراء وضعوا كُسَيراتٍ على الأرض، وهم قعودٌ يلتقطونَها ويأكلونها، فقالوا له: «هلمَّ يا ابنَ رسول الله الى الغداء!»، فنزل وقال: «إنّ اللهَ لا يحبُّ المتكبِّرين»، وجعل يأكلُ معَهم. ثمّ دعاهم إلى ضيافتِه فأطعمَهم وكَساهم.
وكان من كَرمِه أنّه أتاه رجلٌ في حاجة، فقال له: «اكتبْ حاجتَك في رقعةٍ وارفعْها إلينا». فرفَعَها إليه، فأضعَفَها له [أي أعطاه ضِعفَ ما سأل]، فقال له بعضُ جلسائه: «ما كان أعظمَ بركة الرُّقعة عليه يا ابنَ رسول الله!».
فقال عليه السّلام: «بَرَكتُها علينا أعظَم، حين جُعِلنا للمعروف أهلاً. أمَا علِمتَ أنّ المعروفَ ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأمّا مَن أعطيتَه بعد مسألة، فإنّما أعطيتَه بما بذلَ لكَ من وجهِه. وعسى أن يكونَ باتَ ليلتَه مُتمَلمِلاً أَرِقاً، يميلُ بينَ اليَأس والرَّجاء، لا يعلمُ بما يرجعُ من حاجتِه؛ أَبِكآبةِ الرَّد، أم بسرورِ النُّجح، فيأتيك وفرائصُه ترعدُ وقلبُه خائفٌ يخفُق، فإنْ قضيتَ له حاجتَه في ما بذلَ من وجهِه، فإنّ ذلك أعظم ممّا نالَ من معروفِك».
وجاءَه بعضُ الأعراب، فقال: «أُعطُوه ما في الخزانة!». فوجِد فيها عشرون ألفَ درهم. فدُفِعت إليه، فقال الأعرابي: «يا مولاي، ألا تركتَني أبوحُ بحاجتي، وأنشرُ مِدحَتِي؟». فأَنشأَ الحسن عليه السلام يقول:
نحـــــنُ أنـــــاسٌ نوالُنا خضلْ يَرتـعُ فيـه الرَّجاءُ والأمَلْ
تجـــــودُ قبـــلَ السُّؤالِ أنفسُنا خوفاً على ماء وجهِ مَن يسَلْ.

من مناقبِه عليه السلام
هو سيّدُ شبابِ أهلِ الجنّة، وأحدُ الإثنين اللَّذَين انحصرت ذريّةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله فيهما، وأحدُ الأربعة الذين باهلَ بهم النبيُّ نصارى نَجران، وأحد الخمسة (أصحاب الكساء)، وأحد الإثني عشر الذين فرضَ اللهُ طاعتَهم على العباد، وهو أحدُ المُطَهَّرين من الرِّجس في الكتاب، وأحدُ الذين جعلَ الله مودَّتَهم أجراً للرّسالة، وجعلَهم رسولُ الله أحدَ الثّقلين اللَّذَين لا يضلُّ مَن تمسَّك بهما. وهو رَيحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحبيبُه الذي يحبُّه ويدعو اللهَ أن يحبَّ مَن أحبَّه.
وله من المناقب ما يطولُ بيانُه، ثمّ لا يُحيط به البيان وإنْ طال.

وصيّةُ الأمير له عليهما السلام
وأمرَه أبوه أميرُ المؤمنين عليه السلام -منذ اعتلّ- أن يصلِّي بالنّاس، وأوصى إليه عند وفاتِه قائلاً: «يا بُنَيّ، أنت وليُّ الأمر وَوَلِيُّ الدّم»، وأشهدَ على وصيّتِه الحسين، ومحمَّداً، وجميعَ وُلدِه، ورؤساءَ شيعتِه، وأهلَ بيتِه، ودفعَ إليه الكتابَ والسّلاح.
ثمّ قالَ له: «يا بُنَيّ، أمرَني رسولُ الله أن أُوصِي إليك، وأن أدفعَ إليك كُتُبي وسلاحي، كما أوصى إليَّ رسولُ الله ودفعَ إلَيَّ كُتُبَه وسلاحَه. وأمرَني أن آمرك، إذا حضرَك الموتُ أن تدفعَها إلى أخيك الحسين». ثمَّ أقبلَ على الحسين فقال: «وأمرَك رسولُ الله أن تدفعَها إلى ابنِك هذا». ثمّ أخذَ بِيَدِ عليِّ بنِ الحُسَين، وقال: «وأمرَك رسولُ الله أنْ تدفعَها إلى ابنِك محمّد. فَأَقْرِئه من رسول الله ومنّي السّلام».

البَيعة
وبُويِع بالخلافة بعد وفاة أبيه عليهما السلام، فقام بالأمر -على قِصر عهدِه- أحسنَ قيام، وصالحَ معاوية في الخامس عشر من شهر جمادى الأُولى سنة 41 -على أصحِّ الرّوايات- فحفظَ الدِّين، وحقنَ دماءَ المؤمنين، وجرى في ذلك وفقَ التّعاليم الخاصّة التي رواها عن أبيه عن جدِّه صلّى اللهُ عليهما. فكانت خلافتُه «الظاهرة» سبعةَ أشهُر وأربعةً وعشرين يوماً "..".
ولولا قوّةُ تأثيرِه في خُطَبِه، وعظيمِ مكانتِه في سامِعيه، لَما تألَّف له جيش، ولا قامت له بعدَهم قائمة. ".."
خرج عليه السلام إلى النّاس، غيرَ ناظرٍ إلى ما يكون من أمرِهم معَه، ولكنّه وقفَ على منبرِ أبيه، لِيُؤَبِّنَ أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتلِه صلواتُ الله وسلامُه عليه.
فقال: «لقد قُبِضَ في هذه اللّيلة رجلٌ لم يسبِقْهُ الأوَّلون، ولا يُدرِكُه الآخرون. لقد كان يجاهدُ مع رسول الله فَيَقِيه بنفسِه. ولقد كان يوجِّهه برايتِه، فيكتنفُه جبرئيل عن يمينِه، وميكائيل عن يسارِه، فلا يرجع حتّى يفتحَ اللهُ عليه. ولقد تُوفِّي في اللّيلة التي قُبِضَ فيها موسى بنُ عمران، ورُفِعَ بها عيسى بنُ مريم، وأُنزِل القرآن، وما خلَّفَ صفراءَ ولا بيضاء، إلّا سبعمائة درهم من عطائِه، أراد أن يبتاعَ بها خادماً لأهله». ".."
ووقفَ بحَذاء المنبر في المسجد الجامع -وقد غَصَّ بالنّاس- ابنُ عمِّه «عبدُ الله بن عبّاس بنِ عبد المطّلب»، ينتظرُ هدوءَ العاصفة الباكية المرنّة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبينِ الإمام الحسن لأبيه عليهما السلام.
ثمّ قال -بصوتِه الجهوريّ الموروث- الذي يدوّي في الأرض دويَّ أصواتِ السّماء، وما كان عبد الله منذ اليوم، إلّا داعي السّماء إلى الأرض: «معاشرَ النّاس، هذا ابنُ نبيِّكم، ووصيُّ إمامِكم فَبايِعوه، ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبلَ السلام، ويخرجهم من الظّلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾ المائدة:16».
وفي النّاس إلى ذلك اليوم، كثيرٌ ممّن سمعَ نصَّ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله، على إمامتِه بعد أبيه. فقالوا: «ما أحبَّه إلينا وأوجبَ حقَّه علينا وأحقَّه بالخلافة». وبادروا إلى بيعتِه راغبين.
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه عليه السلام، سنة أربعين للهجرة.
 

خطبتُه بعدَ البَيعة
ويعود الإمام الحسن عليه السلام -بعد أن أُخِذت البيعة له- فيفتتح عهدَه الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرضُ فيه مزايا أهلِ البيت وحقّهم الصّريح في الأمر، ثمّ يُصارحُ النّاسَ فيه بما ينذرُ به الجوُّ المتلبِّدُ بالغيوم من مفاجآتٍ وأخطار.. فيقول، (وهو بعضُ خطابه):
«نحن حزبُ الله الغالبون، وعِترةُ رسول الله الأَقْرَبون، وأهلُ بيتِه الطيّبون الطّاهرون، وأَحدُ الثّقلين اللّذَين خلَّفَهما رسولُ الله في أُمَّتِه، ثاني كتابِ الله الذي فيه تفصيلُ كلِّ شيء، لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه ولا من خلفِه، فَالمعوَّلُ علينا في تفسيرِه، لا نَتَظَنَّنُ تأويلَه بل نتيَقّنُ حقائقَه، فَأَطِيعونا فإنّ طاعتَنا مفروضة، إذ كانت بطاعةِ الله ورسولِه مقرونة، قال اللهُ عزّ وجلّ: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول..﴾ النساء:59، وقال: ﴿..ولو ردّوه الى الرسول وأولي الأمر منهم لعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم..﴾ النساء:83».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة