قراءة في كتاب

نفس المهموم في مصيبة سيّدنا الحسين المظلوم

الكتاب: (نفس المهموم في مصيبة سيّدنا الحسين المظلوم)
المؤلّف: المحدّث الشيخ عباس القمّي
تحقيق: السيد أحمد الحسيني
الناشر: «دار المحجّة البيضاء»، بيروت 2014م
مجلة شعائر
تتبوّأ السيرة الحسينية المقدّسة منزلة استثنائية في النصّ الروائي العربي الإسلامي بوجهٍ عام، وفي أدب السيرة على وجه الخصوص.
ولعلّ الاهتمام الرفيع والواسع الذي حظيت به سيرة الإمام الحسين عليه السلام، ومن ثمّ واقعة الطفّ، من جانب المؤرخين والعلماء المسلمين، كان من نتيجته ذاك السَّيل الهائل من الكتابات. الأمر الذي أدّى إلى تعدّد في صيغة تدوين الأحداث ونقل الروايات.
ونحن في معرض الحديث عن كتاب المحدّث الكبير الشيخ عباس القمي الموسوم بـ (نفَس المهموم في مصيبة سيّدنا الحسين المظلوم)، يحضرنا المنهج الفريد الذي اعتمده المؤلّف رضوان الله عليه، في إنجاز كتابه، وهو منهج علمي موضوعي تجتمع في أسلوبيّته المناهج التقليدية مع المناهج الحديثة، وهذا ما  يشير إليه محقّق الكتاب السيد أحمد الحسيني حين يرى أنّ أكثر المؤرّخين المعنيّين بتاريخ الإسلام – من مسلمين وغير مسلمين – تناولوا واقعة الطفّ ومقتل الحسين بن عليٍّ عليهما السلام، بالتدوين في أعمالهم التأريخية العامّة، أو في كتب متخصّصة.


إلّا أنّ الواضح في هذا المجال أنّه كان لكلّ مؤرخ طريقته وأسلوبه في التدوين وسرد الوقائع والأحداث. فمن محدِّثٍ ذكر الوقائع بأسانيد إلى ناقليها عن مشاهدة ورأي عين، ومن سارد نسق الأحداث تنسيقاً زمنياً، أو ما شاكل ذلك، إلى محلّل يدرس المقدمات والنتائج ويستخرج الأسباب التي دعت للنهضة وما نتج عنها، هذا فضلاً عن أولئك الذين ذهبوا في رواية واقعة الطفّ عبر مزج الواقع بالخيال، لكي يرسم صورة يظنّ أنّها تخدم القضية الحسينية بأجلى صورها.
وبإزاء ذلك، من الطبيعي أن تختلف مراتب هؤلاء المؤرّخين في الدقة والعناية بما ينقلونه من الوقائع، أو عدم الاكتراث وتحرِّي الصادق منها عن الدخيل: فترى بعضهم في منتهى الاحتياط والتحفّظ في النقل، حيث يتحرّى الواقع ويتجنّب التحوير والمبالغة، في حين أنّ بعضهم تدفعه العصبية العمياء إلى إنكار بعض الحقائق أو قلبها، وإن بزعم الحب والولاء.
منهجية القمّي في الكتابة
كان المحقّق القمّي مدركاً حقيقة الالتباسات التي أدّت إليها الروايات المتعدّدة لواقعة كربلاء. ولذا أراد أن يقدّم لجمهور المؤمنين نصاً متكاملاً يحظى بالرعاية الأدبية، والأمانة العلمية، والحرص على نقل واقعة الطفّ بما يخدم قضيّة سيّد الشهداء وأهل بيته عليهم السلام.
لم يكتفِ المحدّث القمي في كتابه هذا برواية الأحداث وجمعها كيفما اتّفق، بل قارن بين الروايات المتعدّدة، وعرض بعضها على بعض ليميِّز الصحيح منها عن المشكوك فيه.
فلقد تتبّع المصادر التاريخية المهمّة كـ(مقتل) أبي مخنف، و(تاريخ) الطبري، و(الكامل) لابن الأثير، ونظائرها، كما ذهب بعيداً في استقصاء المراجع التأريخية المتأخّرة كـ(ناسخ التواريخ)، و(القمقام) لفرهاد ميرزا وأمثالهما. وكلّ ذلك لكي لا يشذّ عنه دقيقة تأريخية، أو تحقيق يليق بالدرس والنقل.


نقرأ في تقديمه لعمله هذا، والدوافع التي حملته إليه فيقول: «كانت نفسي تنازعني دائماً أن أجمع مختصراً في مقتل مولانا الحسين عليه السلام، أذكر فيه ما أعتمد عليه ممّا وصل إليَّ من الثقات الأثبات، وما اتّصل سندي به من روايات الرواة، لأنتظم في سلك النائحين على سيّد المظلومين أبي عبد الله، عليه آلاف الصلاة والتسليمات. إلّا أنّ العوائق تمنع من المراد، والشواغل تضرب دون بلوغ الغرض بالإسداد، إلى أن منّ الله تعالى عليّ بالتشرّف إلى زيارة الحضرة الشريفة المقدّسة المطهّرة، مهبط ملائكة الله ومعدن رضوان الله، التي هي روضة من رياض الجنّة... المستقرّ بها إمام المتّقين وبضعة رسول ربّ العالمين، ضامن الغرباء والمساكين، ثامن الأئمّة المعصومين، سيّد الإنس والجِنّة، والمدفون بأرض الغربة، مولانا المظلوم وإمامنا المسموم، حجّة الله على الخلق أجمعين، السلطان أبو الحسن عليّ الرضا عليه السلام... فاستسعدت بتقبيل تلك العتبة المنيفة، وانتظمت في سلك مجاوري هذه الروضة الشريفة، فمددتُ إلى حضرته كفّ السؤال، ورفعت إلى جنابه يد الضراعة والابتهال، ليوفّقني للوصول إلى أمنيتي فإنّها منتهى الآمال. ثمّ استخرت الله الكبير المتعال، فشرعت في تأليف هذا الكتاب».
ثمّ يوضح المحدّث القمي أمراً مهمّاً متعلّقاً بمنهج الكتابة، إذ يشير إلى مجموعة من الكتب المعتبرة كانت بالنسبة له عوناً ومرجعاً لإنجاز عمله. من هذه الكتب:
* (الإرشاد) للشيخ الأجلّ، فخر الشيعة ومحيي الشريعة، أبي عبد الله محمّد بن محمد بن النعمان الملقّب بـ «المفيد» رضوان الله عليه، المستغني عن المدح والتوصيف لغاية شهرته، مع أنّ كلّ ما يقال فهو دون رتبته، توفّي سنة 413 للهجرة، ببغداد ودفن في البقعة المنوّرة الكاظمية عند رِجلي أبي جعفر الجواد عليه السلام.
* (اللهوف على قتلى الطفوف) للسيّد الأجل الأورع الأزهد.. قدوة العارفين.. صاحب الكرامات الباهرة والمناقب الفاخرة، رضي الله أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاوُس الحسيني، المتوفّى ببغداد سنة 664 للهجرة، قدّس الله سرّه ورفع في الملأ الأعلى ذكره.
* كتاب (التاريخ) للمؤرّخ الكامل أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفّى ببغداد سنة 310 للهجرة، الذي  قال في حقّه محمد بن خزيمة المعروف بإمام الأئمّة: «ما أعلمُ على أديم الأرض أعلم منه».
* (تاريخ الكامل) للمؤرّخ النسابة.. عز الدين أبي الحسن علي أبن أبي الكرم محمّد، المعروف بـ«ابن الأثير الجزري»، المتوفّى بالموصل سنة 630 للهجرة.
* (مقاتل الطالبيّين) للشيخ المؤرّخ النسّاب... عليّ بن الحسين القرشي..، المعروف بـ«أبي الفرج الأصبهاني»، المتوفّى ببغداد سنة 356 للهجرة.
* (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمؤرّخ الأمين والمعتمد عند الفريقين، الشيخ العالم الكامل المطّلع... أبي الحسن عليّ بن الحسين ابن علي الهذلي الإمامي المعروف بـ«المسعودي»، المعاصر لأبي الفرج الأصبهاني، بلّغه الله في الجنان إلى منتهى الأماني.


* (تذكرة خواص الأمّة في معرفة الأئمّة) للشيخ العالم... أبي المظفّر يوسف بن فزاغلي البغدادي، المعروف بـ«سبط ابن الجوزي»، المتوفّى سنة 654 للهجرة، المدفون في جبل قاسيون بدمشق.
* (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) للشيخ العالم الفاضل.. كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي.
_ (الفصول المهمة في معرفة الأئمة) للشيخ نور الدين علي بن محمد المكّي، المعروف بـ«ابن الصبّاغ المالكي»، المتوفّى سنة 855 للهجرة.
* (كشف الغمّة) للشيخ الفاضل النبيل المحدّث الثقة الجليل، بهاء الدين أبي الحسن عليّ بن عيسى الأربلي الإمامي قدّس الله روحه، فرغ من تأليفه سنة 687 للهجرة.
* (العقد الفريد) للشيخ شهاب الدين أبي عمرو أحمد بن محمد القرطبي الأندلسي المالكي المعروف بـ«ابن عبد ربّه»، الفاضل المحدّث الأديب.. المتوفّى سنة 338 للهجرة، وهذا الكتاب من الكتب الممتعة حوى من كلّ شيء.
* (الاحتجاج على أهل اللجاج) للشيخ الأجلّ العالم الفاضل الفقيه المحدّث الثقة الوجيه، أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي، أحد مشايخ ابن شهرآشوب الآتي ذكره، قدّس سره.
* (المناقب) للشيخ الأجلّ محيي آثار المناقب والفضائل... قطب المحدّثين وشيخ مشائخهم، رئيس العلماء وفقيههم، رشيد الملة والدين، العالم الرباني محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المازندراني عطّر الله مرقده، المتوفّى سنة 588 للهجرة، والمدفون على جبل جوشن بحلب عند مشهد السِّقط محسن بن أبي عبد الله الحسين السبط سلام الله عليهما.
* (روضة الواعظين) للشيخ الشهيد السعيد العالم... الحافظ الواعظ، أبي علي محمد بن الحسن بن علي الفارسي، المعروف بـ«الفتّال النيسابوري»، أحد مشايخ ابن شهرآشوب رضوان الله عليهما.
* (مثير الأحزان) للشيخ الجليل العالم الكامل الفقيه.. نجم الدين جعفر بن محمّد الحلي المعروف بـ«ابن نما»، أحد مشايخ آية الله العلامة الحلّي رضوان الله عليهما ورفع في الملأ الأعلى ذكرهما.
* (الكامل البهائي في السقيفة) للشيخ العالم العامل.. الفقيه المطّلع المتكلّم الجليل المحدّث النبيل، عماد الدين الحسن بن علي بن محمد الطبري، المعاصر للمحقّق والعلّامة رفع الله مقامه، ألّفه لبهاء الدين محمد بن شمس الدين الجويني، وفرغ منه سنة 675 للهجرة.
* (روضة الصفا في سيَر الأنبياء والملوك والخلفاء) للمؤرّخ.. محمّد بن خاوند شاه، المتوفّى سنة 903 للهجرة.
كما نقل المحدّث القمّي عن مقتل (تسلية المجالس) للسيد محمد بن أبي طالب الموسوي الحسيني الحائري، بتوسّط (البحار) للعلامة المجلسي. وعن مقتل أبي مخنف الأزدي، ومقتل الكلبي بتوسّط (تاريخ الطبري) و(تذكرة السبط).

موضوعات الكتاب
إذا كان كتاب المحدّث القمي قد جاء حصيلة جهود تحقيقية متعدّدة المصادر والمراجع الموثوقة، فإنّ الموضوعات التي تناولها المؤلّف بالتفصيل تعكس المنزلة الرفيعة لهذا العمل الفريد.
ينقسم الكتاب إلى خمسة أبواب يضاف إليها المقدّمة والخاتمة.
أماّ هذه الأبواب فهي:
الباب الأول: مناقبه عليه السلام وثواب البكاء عليه.
الباب الثاني: ما جرى عليه، عليه السلام، بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية وصولاً إلى شهادته.
الباب الثالث: الوقائع المتأخّرة عن مقتله.
الباب الرابع: ما ظهر بعد شهادته عليه السلام.
الباب الخامس: ذكر أولاده وأزواجه وفضل زيارته وجور الخلفاء على قبره.
أمّا في الخاتمة فقد تناول المؤلّف رضوان الله عليه، التداعيات الناجمة من ملحمة كربلاء، كنشوء حركة التوّابين وخروج المختار وقتْلِه قَتَلَةَ الحسين عليه السلام؛ أمثال عمر بن سعد، وابن زياد، وانتهاء بموت يزيد بن معاوية.

إلى ذلك يتضمّن الكتاب ما يشبه الملحق، وجاء تحت عنوان: (نفثة المصدور)، وفيه نبذة عن مناقب الإمام الحسين عليه السلام، قصيدة الكميت الأسدي في أصحاب الحسين عليه السلام، إلى مجموعة من قصائد الرثاء الخاصة بأهل البيت عليهم السلام. ثمّ يختم بنصائح علمية لقارئ مجالس العزاء.
ينطوي كتاب المحدّث الشيخ عباس القمّي على قيمة مرجعية في التعرُّف على موقعة الطفّ، وما أحاط بها من ظروف سبقتها ومهّدت إليها، ناهيك عن الآثار الكبرى التي تركتها على تاريخ الإسلام بأجمعه حتّى يومنا هذا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة