مقالات

الاستدلال برواية الإمام العسكري(ع) على استحباب زيارة الأربعين (2)

 

الشيخ محمد عبيدان
دراسة الحديث سنداً ودلالة:
هذا وينبغي التأمل في الرواية المذكورة لنرى مدى تمامية دلالتها على المدعى، وهذا يستدعي دراستها من الناحية السندية، والدلالة.
أما من حيث السند، فلا مجال للاستناد للنص المذكور للدلالة على المدعى، ضرورة أن الخبر المذكور، ضعيف سنداً بالإرسال، حيث أن الشيخ(ره) رواه في التهذيب، دون أن يذكر طريقه للإمام الحسن العسكري(ع)، فيكون الخبر مرسلاً.
ولو قيل أن هذا الخبر مجبور بعمل المشهور، وقد قرر في محله أن عمل المشهور بالرواية ضعيفة السند، يكون موجباً للوثوق بالصدور، وبالتالي يصلح الخبر عندها للاستدلال.
فإنه يجاب عنه، بأن هذا أمر مبنائي، لا يتفق عليه جميع الفقهاء، إذ أن بعضهم يـبني على القبول به، والبعض الآخر لا يقبله، ومع الالتـزام بالقبول به وفقاً لقول من يقول به، فإنه لا يصلح أيضاً للاعتماد عليه، لأنه لم يحرز أن الأصحاب قد استندوا لهذا الحديث حتى يقال بأنه مجبور بعمل المشهور.
 

التأمل في دلالة الحديث:
هذا وقد حكى السيد المقرم(قده) في كتاب مقتل الإمام الحسين(ع)[6] أن الحديث المذكور فيه احتمالان:
الأول: أن يكون المقصود من زيارة الأربعين التي وردت في الحديث، هي زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وعندها يكون قد مضى على شهادته(ع) أربعون يوماً.
الثاني: أن يكون المقصود من زيارة الأربعين، هي زيارة أربعين مؤمناً، لكنه لم ينسب هذا القول إلى قائل.
وقد أصرّ(ره) على أن المقصود من الزيارة في الحديث المذكور هو خصوص الاحتمال الأول، لكنه لم يعمد إلى ذكر قرينة مساعدة على ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، ضرورة أنه مع تعدد الاحتمالات في النص، فلابد في الحمل على أحدهما من وجود قرينة توجب صرف اللفظ للمعنى المقصود، دون المعنى الآخر، وإلا فلا ريب في البناء عندها على الإجمال، كما لا يخفى. على أن البناء على أحد المحتملين في موارد تردد النص بينهما مثلاً دون ذكر ما يوجب الحمل عليه، من الترجيح بلا مرجح، وهو أمر مرفوض، كما لا يخفى.
هذا والإنصاف، أننا فحصنا من خلال بعض البرامج الكمبيوترية، كبرنامج مكتبة أهل البيت(ع)، وأمثالها، وكذا بعد الاستعانة بالشبكة العنكبوتية، لم نجد استعمال لفظة(زيارة الأربعين) على زيارة المؤمن، ولم نجد مثل هذا الاستعمال أصلاً في النصوص الشريفة، نعم الوارد زيارة المؤمن، وفضل زيارة المؤمن، وما شابه ذلك، أما تحديد عدد المزار، وأنه أربعون، أو ما شابه ذلك، لم نجد له في النصوص بمقدار ما فحصنا عيناً ولا أثراً، وعليه لم يتضح لنا وجه الاحتمال المحكي من قبل السيد المقرم(ره)، ضرورة أن ذكر مثل هكذا محتمل، لابد وأن يكون له منشأ من استعمال، وما شابه، وما ذكرناه ينفي ذلك، فلاحظ.
 

ما يصلح للقرينية والمناقشة فيه:
هذا ويمكننا أن نذكر ما يصلح للقرينية لحمل اللفظ الوارد في الحديث محل البحث على زيارة الأربعين، ويوجب ذلك تأكد ما أصرّ عليه السيد المقرم(ره)، وما فهمه كثير من شيعة أهل البيت(ع).
وما يصلح لذلك أمران:
أحدهما: أن تكون (أل)الوارد في كلمة الأربعين، عهدية، وليست جنسية، وعندها تدل الرواية على المدعى، بيان ذلك:
لقد نص النحويون[7] أن أداة التعريف على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون لتعريف الجنس، وتسمى (أل)الجنسية، أو التي لبيان الماهية، وهي مثل قوله تعالى:- (وجعلنا من الماء كل شيء حي)[8]، ومثل قولك: الرجل أفضل من المرأة. على أساس أنك لا تريد به رجلاً بعينه، ولا تريد بها امرأة بعينها، وإنما أردت أن جنس الرجال، أفضل من جنس النساء.
ثانيها: أن تكون لتعريف الاستغراق، مثل قوله تعالى:- (وخلق الإنسان ضعيفاً)[9].
ثالثها: أن تكون لتعريف العهد، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-عهد ذكري، وهو مثل قولك: اشتريت فرساً، ثم بعت الفرس. يعني أنني قد قمت ببيع الفرس المذكور، وإليه يشير قوله تعالى:- (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري)[10].
2-عهد ذهني، مثل قولك: جاء الشيخ، بناءً على أن بينك وبين المستمع عهد في شيخ معين وخاص، فإنك تكتفي بالعهد الذي بينك وبينه، فلا تحتاج إلى التعريف بالشيخ الجائي أكثر من كونه الشيخ المعهود بينكما.
3-عهد حضوري، كما لو كان زيد جالساً عند عالم، وأمره المولى بإكرام عالم، فقال له: أكرم العالم، فعندها ستكون صورة العالم الذي يجب إكرامه من قبل زيد، هو العالم الحاضر أمامه، وهذا معنى أن (أل)للعهد الحضوري.
ولا يخفى أن القرينة التي سوف يتكئ عليها في إثبات أن المقصود من الأربعين في الرواية هي زيارة الإمام الحسين(ع)، تعتمد على الالتـزام بأن(أل)الواردة في الرواية عهدية، دون القسمين الآخرين، وأن العهد عهد ذهني.

فيقال عندها: إن الإمام العسكري(ع) بصدد الحديث عن أمر معهود بينه وبين شيعته، ويتمثل ذلك الأمر في زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من شهر صفر، وهي الزيارة التي يكون قد مضى فيها على شهادة المولى أبي عبد الله الحسين(ع) أربعون يوماً، فيقصد زيارة الأربعين المعهودة، فيثبت المطلوب.
وهذه القرينة قد تناقش بعدم وضوح العهد الذهني بين الإمام العسكري(ع)، وبين المستمع، ذلك لأنه لم يحرز وجود كلام مسبق قد صدر منه(ع)، حتى يكون هناك اتكاء على عهد مسبق بينهما، وبالتالي لا مجال للبناء على تحقق العهد الذهني في المقام، فلاحظ.
ثانيهما: التمسك بالانصراف، وتوضيح ذلك أن يقال:
المذكور في كلمات علماء الأصول أن الانصراف على قسمين:
الأول: الانصراف الذي ينشأ من غلبة الوجود الخارجي لحصة خاصة من حصص المعنى الذي وضع له اللفظ، وهذا يعني أن الذهن ينـتقل مباشرة إلى حصة خاصة من حصص المعنى الذي وضع لأجله اللفظ، ومنشأ الانتقال هو غلبة وكثرة وجود تلك الحصة دون ما سواها من الحصص الأخرى.
كما لو قيل لشخص يعيش في كربلاء المقدسة: جئني بماء، فإنه مباشرة سوف يحضر ماء الفرات، والسبب في ذلك هو غلبة وجود حصة ماء الفرات على غيرها في كربلاء المقدسة.
ومثل ذلك لو قيل لشخص من الشيعة: جئني بتربة، فإنه سوف يحضر مباشرة تراب قبر المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، وسبب ذلك يعود لغلبة وجود حصة تراب قبر المولى أبي عبد الله(ع) على طين قبر عمه الحمزة(ع)، مثلاً، وهكذا.
الثاني: الانصراف الذي ينشأ من كثرة استعمال اللفظ، وإرادة حصة خاصة منه، مع أن اللفظ له أكثر من مصداق، لكنه ينسبق الذهن لخصوص هذا المصداق دون البقية، بسبب وجود علاقة شديدة وأنس بين اللفظ وتلك الحصة والمصداق. مثل لفظ الخبر، فإنه لما كثر استعمال الشارع الخبر مقيداً بقيد الثقة، صار بين اللفظين علقة وطيدة، بحيث متى ورد في كلام الشارع، كان المقصود منه خصوص خبر الثقة، لا غيره من الأخبار.
وما ينفعنا في المقام هو القسم الثاني دون القسم الأول، فإنه هو الذي يوجب تعيـين المراد من اللفظ في موارد الإطلاق، ويمنع من انعقاده، وعليه يقال: إن مجرد ذكر كلمة زيارة الأربعين، يوجب حصول انصراف إلى زيارة الإمام الحسين(ع)،فيثبت المطلوب.
وقد تناقش هذه القرينة أيضاً من خلال القول بأن الاستناد إليها يتوقف على أن يكون الانصراف الموجود هو انصراف ناشئ من غلبة الاستعمال، وليس ناشئاً من غلبة الوجود، والظاهر أن هذا الانصراف الموجود خارجاً من النحو الثاني وهو انصراف حاصل من غلبة وكثرة الوجود، وليس من النحو الأول، وهو كثرة الاستعمال.
هذا وقد يضاف في البين أمر ثالث يجعل قرينة على إرادة زيارة الإمام الحسين(ع)، وهو التمسك بالتبادر، وهو سبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق بنفسه ومن دون قرينة، وهذا يعني أن الانسياق يكون مستنداً إلى نفس اللفظ، فيكون عندها دليلاً على أن اللفظ موضوع للمعنى.
ــــــــــــــــ
6] مقتل المقرم ص 366.
[7] راجع على سبيل المثال قطر الندى وبل الصدى ص 112.
[8] سورة الأنبياء الآية رقم 30.
[9] سورة النساء الآية رقم 38.
[10] سورة النور الآية رقم 35.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة