مقالات

سد طريق العقل

 

الإمام الخامنئي "دام ظله"
نرى على طول التاريخ، في الماضي، والحاضر، أناسًا لا ينتفعون أبدًا من إرشادات العقل ولا من إرشاد الأنبياء والمصلحين والعقلاء؛ فما سبب ذلك؟
إنه لأمر واضح جدًا! هي الميول والرغبات الموجودة في باطن الإنسان التي تتغلب على عقله وعلى تصميمه واختياره وعلى معرفته الصحيحة. يدرك الإنسان أن هذا الطريق غير صحيح لكنه يسلكه. ويَصل الأمر أن تقفل هذه الرغبات والأهواء الباطنية الطريق أمام عقل الإنسان وتعمي بصيرته ولا تدعه يميز بشكل صحيح. انظروا، يا له من ضعف كبير في الإنسان؛ هو ضعف أسر الأهواء والهوس، ذلة الرغبات.

عبد الملك؛ مع السلامة
إن الكثير من الناس الأقوياء تأسرهم هذه الرغبة وتعرضهم للزلل في بعض المواطن، حتى المؤمنين منهم أصحاب الإرادة.
إن كثيرًا من الجلادين الذين ترونهم عبر التاريخ لم يكونوا في ذاتهم بطاشين؛ لم يكونوا رجالًا سيئين منذ البداية. فعبد الملك بن مروان الذي كان أحد أكثر خلفاء بني أمية قسوة وشدّة وكان سببًا لإخماد ثورات الحق في عصره وزمانه وقد تعامل بقسوة مفرطة مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ كان معروفًا قبل أن تصل الخلافة إليه بـ"حليف القرآن". يعني أنه لا يفترق عن القرآن، كان القرآن دائمًا تحت إبطه أو في جيبه أو بقربه وأمام يديه. كان يتلو القرآن، كان إنسانًا يأنس بالعبادة. وبعد أن أخبروه بوفاة والده وأنه قد نُصّب خلفاً له، "وأن قم وأذهب واستلم زمام الحكم والخلافة"؛ هنا نسي كل شيء، وقد ذهبت كل تلك السوابق في طي النسيان؛ ترك المصحف وشأنه وقال مخاطبا إياه: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾]الكهف:78[ مع السلامة! ترك القرآن، وفي الواقع ودّع القرآن وذهب. لا يصحّ القول أنه عندما كان يقرأ القرآن ويأنس به كان يخادع ويظاهر. فمن هو الذي كان يريد خداعه؟ كان من أهل المعرفة والأنس بالقرآن وكان من أهل الذكر والعبادة، ونرى الكثير من هذا القبيل من الذين يعلقون في اللحظات الحساسة في شراك الهوى والرغبات وفي قبضة الرغبات النفسانية القوية وإلى حدّ أنهم قد انفصلوا عن قيمهم وعن تقواهم وطهارتهم بحيث لم يعد لديهم القدرة على المقاومة. لذلك، إن مواجهة الهوس والأهواء ليست بالمواجهة السهلة، إنها تحتاج إلى رياضة وتمرّن.

جنود طالوت؛ شربوا الماء وانسحبوا
وجدتُ في القرآن نموذجًا عن هذا الاختبار والتمرين، وكانت له آثار في النفوس، سواء الذين قاموا به أو الذين أعرضوا عنه؛ وهي قصة داوود وطالوت. والقضية هي أن جمعًا قد وجد أنه لا مفر من إعداد الجيش في سبيل الدفاع عن قيم النبوة والحق ومواجهة الظلم والتعدي. وكان على رأسه طالوت الذي نصّبه الله قائدًا وعينه النبي؛ نبي ذلك الزمان. وكان في الطريق نهر ماء. وقبل الوصول إلى النهر، طلب طالوت ممن معه أن لا يشربوا عندما يصلون إليه، حتى مع العطش والنصب، وكان يُصرّ ويشدد عليهم أن إذا شرب أحدكم فليس مني ومن لم يطعمه فهو مني وإلى جانبي. عند وصولهم الماء خالف كثيرون وصية طالوت وشربوا، ويفهم من ذلك أنهم كانوا بحالة عطش شديد؛ وإلا ما هي علة ذلك مع أنهم تحركوا وتطوعوا للذهاب إلى ميدان الحرب؛ لماذا لم يكترثوا لطلب قائدهم؛ يشير هذا إلى أنهم ابتلوا بعطش شديد ولم يعدْ لديهم القدرة على التحمّل، وقد نزلوا إلى النهر مصممين على الشرب.


امتثلت القلّة القليلة من اتباع طالوت لأمره وامتنعت عن شرب الماء. ثم عندما أرادوا عبور النهر أو لعله عندما كانوا يعبرونه وكانت قوات العدو قد أصبحت في الجهة المقابلة لهم، لم تستطع مجموعة كبيرة منهم العبور –أي أولئك الذين شربوا من ماء النهر- وكانت تُظْهِر عجزها وتنسحب من ميدان الحرب. أما الجماعة التي أطاعت أمر قائدها وسلمت أمرها إليه، فقد وقفت في مواجهة العدو وقاومت وانتصرت في النهاية. وهذه قصة جد لافتة ورائعة، وفي رأيي هي قصة نموذجية تعلّم درسًا.
لم تكن المسألة أن لماء النهر خاصية باعثة على التقاعس والخوف، مثلًا، لا؛ فالماء هو ماء. إنما القضية كانت أن ذلك الشخص الذي يمكنه التغلب على نفسه في امتحان مواجهة العطش ويمكنه القيام بهذه الرياضة الصعبة الثقيلة، يصبح قويًا بذلك القدر وتكون هذه القدرة لمصلحته في المواجهة مع العدو. وإن مختلف صنوف الناس من المقاتلين وغيرهم الذين يستطيعون التغلب على أنفسهم في معركة المواجهة مع النفس، سيتمكنون من التغلب على عدوهم في المعركة. وإن أولئك المستسلمين لأهوائهم ورغباتهم فلا دليل أنهم لن يضعفوا ولن يقعوا في الحيرة والتردد وليس معلومًا أنهم لن ينهزموا في قبال أخطار الموت والأسر والمواجهة في ميادين الحرب مع الأعداء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة