من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

نزول عيسى من السّماء، كيف سيغيّر العالم؟

 

السيد عباس نورالدين
من الأحداث الكبرى التي ستجري في عصر الظهور المبارك: نزول نبيّ الله وروح الله عيسى بن مريم (عليهما السلام) من السماء. وقد أجمع المسلمون على هذه الواقعة العظيمة، وإن حصل بعض الاختلاف في تفاصيل القضيّة. كما أنّ هناك اعتقادًا شائعًا بين أهل الكتاب، حول عودة المسيح أو ظهوره في آخر الزمان ليقيم ملكوت السموات على الأرض. فظهور عيسى بن مريم يكاد يكون مجمعًا عليه بين أهل الشرائع السماويّة التوحيديّة.
وفي الرواية الإسلاميّة، إنّ هذا النزول سيكون تأييدًا لحركة الإمام المهدي ودوره العالميّ. ممّا يعني أنّ الإمام (عجل الله فرجه) سيكون ممهّدًا لدورٍ يقوم به هذا النبيّ العظيم ذي الكرامات الباهرات والمعجزات الظاهرات. ففي تأمّلٍ بسيط نجد أنّ لعيسى بن مريم (عليهما السلام) حضورًا روحيًّا ربّانيًّا استثنائيًّا؛ ولهذا فهو يخاطب القلوب أكثر من العقول، ويستحضر السماء والغيب أكثر من الأرض. فلا يبعد أن يكون دوره متمحورًا حول قضية ربط الأرض بعالم السماء، بعد أن تحل البشريّة إشكالية ارتباطها وعلاقتها بهذه الدنيا، في ثقافتها وسلوكها.


إنّ الرسالة السماويّة، التي يبثّها هذا النبيّ العظيم ستكون عبارة عن دعوة الناس للسير إلى الملكوت (الذي هو المرتبة الأعلى لكمالات الأرض). لكن هذا الملكوت لن يكون أمرًا منفصلًا عن الأرض. وهذا هو أحد معاني انفتاح أبواب السماء. فبينما نحن اليوم غارقون مستغرقون في شؤون الدنيا (التي هي أدنى وأخس وأحقر ما في الأرض)، سيأتي اليوم الذي ندرك أرقى وأسمى ما في هذه الأرض وهو ملكوتها، وسيكون لظهور عيسى المسيح (عليه السلام) هذا المعنى وهذه الدلالة. فهو وصلة الأرض بملكوتها وظهور لفتح عظيم أمام أهل الأرض باتّجاه السموات العلى. إنّه الهديّة الإلهيّة الكبرى التي يستحقّها كلّ من توجّه إلى الملكوت ويمّم وجهه شطره؛ وبعدها لن يكون للأرض سوى هذا البعد السماويّ الملكوتيّ.


حين خلق الله عيسى (عليه السلام)  بنفخته الروحانيّة الخاصّة، أراد أن يضرب لنا مثلًا على ما يمكن أن يكون عليه الإنسان في روحانيّته، وإن كان أرضيًّا. وحين يظهر هذا النبيّ العظيم مرّةً أخرى سيسود هذا المعنى وهذا التوجّه الروحانيّ بين الناس، وذلك طبعًا بعد أن تستقر الأرضيّة الاجتماعيّة لقبول روحانيّته وفهمها فهمًا صحيحًا دون ظن التأليه، وهو أمرٌ لم يحدث في ظهوره الأوّل بين الناس كما نعلم.. فحين رفعه الله تعالى إليه، لم يرتفع العالم معه، لأنّه لم يكن مستعدًّا ولائقًا بعد. فإذا جاء إمام العصر والزمان، فإنّه سيحقّق هذا التوجّه العام عند الناس إلى السماء، حيث سيستحقّون شهود هذه الأعجوبة الكبرى والروحانيّة العظمى.
لم يتميّز أتباع ديانة واحدة في العالم في تأكيدهم على الإيمان والعقيدة واللاهوت، مثلما تميّز أولئك الذين جعلوا من المسيح قضيّتهم المركزية. وقد عمل زعماؤهم على مدى عشرات القرون على ترسيخ هذا الإيمان بكلّ ما أمكنهم من قوّة البيان والتأويل والتفسير والدلائل، وأصبح الإيمان "المسيحيّ" أحد أقوى أنواع الإيمان في العالم، مدعومًا بتراث هائل من التجارب المنتشرة في كلّ العالم. وقد عجزت المقاربات الكلامية والاستدلالية والدعوة إلى الحوار و.. عن التأثير فيه بحيث يعيد النظر بأهم تفسيراته لطبيعة المسيح وأمّه والألوهية.


وبمعزل عن السياق التاريخيّ التراكميّ لهذه العقائد وطبيعة الجدليّة الاجتماعيّة التي غذّتها ـ خصوصًا ضمن الصراع بين الكنيسة والسلطة ـ فنحن أمام إيمانٍ عميق يعتزّ أصحابه به، ويرون الآخرين عاجزين عن فهمه. ولهذا، فشلت معظم محاولات الجدال، ووصلت إلى حدّ الإعلان والتلويح بالمباهلة، ثمّ الدعوة إلى كلمة سواء والبحث عن النقاط المشتركة والصفح والإعراض عن الجدال.
ولئن دلّ هذا السياق على شيء، فهو يدلّ على أنّ الله تعالى قد تكفّل بحل هذه المعضلة بطريقةٍ خاصّة، لا تشبه ما فعله سبحانه مع الأمم السابقة. ومن الخطأ تشبيه المسيحيّين أو حتّى اليهود بغيرهم من المِلل، التي نسجت عقائدها على أساس الشرك والعقائد الواهية.
أجل، إنّ طول الزمان يسمح بتسلّل بعض الشك والريب بخصوص حكمة الله وتدبيره، فكيف يترك الله تعالى عباده طوال هذه القرون دون أن يحسم أمرهم. لكن هذا الأمر كما نعلم، ليس بعيدًا عن قضيّة الإمام المهديّ، التي طالت أيضًا لأكثر من أحد عشر قرنًا.
إنّ حسم قضية الدين الحقّ على صعيد الحياة البشرية هو وعدٌ إلهيّ لا يمكن أن يتخلّف كما في قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.[1]لكن هذا الحسم يتطلّب مقدّمات خاصّة بحسب كل مجتمع. وإنّ توفير كل هذه المقدّمات سيكون من مهمّة شخص استثنائي لم تعرف البشرية له مثيلًا من قبل.


ولئن كان القضاء على عبادة الأصنام في منطقة واسعة من العالم هو الإنجاز الأوّل لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنّ توحيد الدين وتوحيد الناس على الدين الحقّ سيكون أيضًا من أعظم إنجازات هذا النبيّ الخاتم، الذي سيتحقّق على يد حفيده المهديّ (عجل الله فرجه).
إنّ تحقيق هذه المقدّمات بهذه الطريقة، لا يعني أنّنا غير مسؤولين عنها أو غير قادرين على المضيّ نحوها، وإن كان تحقّقها الكامل لن يكون إلا على يد الإمام المهدي وبظهوره وحركته المباركة. فقد أوضح القرآن لنا قضيّة الأديان والمِلل، وعرّفنا على منهاج التعامل معها ومعهم، إلّا أنّ الانحراف عن القرآن وتعاليمه هو الذي عقّد الأمور وأضاف الكثير من المشكلات على هذه المشكلة، حيث اندفع زعماء الديانات الأخرى إلى العمل بقوّة لترسيخ عقائدهم في مقابل هذا التعامل غير الواعي.
إنّنا لا نعفي أحدًا من ذنب التحريف، لكن قد يكون وزر هذا الذنب على من لم يحسن فهم القرآن والعمل به (فيما يتعلّق بالتعامل مع المسيحيّين واليهود) أيضًا. وممّا يؤسف له أنّ جماعة نافذة بين محبّي أهل البيت (عليهم السلام) لم تتعلّم هذا الدرس أيضًا، وما زالت مصرّة على مجادلة بقيّة المسلمين بالطريقة التي تزيدهم عنادًا وتمسّكًا بأفكار وعقائد باطلة، وتدفعهم نحو العمل الحثيث لتأويل هذه العقائد وتضخيم تراثها ومستمسكاتها.
من الصعب أن ندرك الحكمة الشاملة لرفع المسيح العظيم ونزوله في آخر الزمان، لكن قد تكون هذه الأفكار مساعدة على السير نحو هذه الحكمة البالغة.
 ــــــــ
[1]. سورة التوبة، الآية 33.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة