قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد ابو القاسم الخوئي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير، ورئيس الحوزة العلمية في النجف

القرآن وأسرار الخليقة (1)

 

السيد أبو القاسم الخوئي
أخبر القرآن‏ الكريم‏ في‏ غير واحدة من‏ آياته‏ عما يتعلق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والأفلاك، وغيرها مما لا سبيل إلى العلم به في بدء الإسلام إلا من ناحية الوحي الإلهي. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في تلك العصور أو غيرهم ممن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلا أن الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإن فريقًا مما أخبر به القرآن لم يتضح إلا بعد توفر العلوم، وكثرة الاكتشافات.
وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور، فصرّح ببعضها حيث يحسن التصريح. وأشار إلى بعضها حيث تحمد الإشارة، لأن بعض هذه الأشياء مما يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدم العلم، وتكثر الاكتشافات.
ومن هذه الأسرار التي كشف عنها الوحي السماوي، وتنبّه إليها المتأخرون ما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: 19].
فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص، وقد ثبت أخيرًا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركبًا آخر. وأن نسبة بعض الأجزاء إلى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقًا بأدق الموازين المعروفة للبشر.


ومن الأسرار الغريبة- التي أشار إليها الوحي الإلهي- حاجة إنتاج قسم من الأشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه:
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر: 22].
فإن المفسرين الأقدمين وإن حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنه أحد معانيه، وفسّروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام، ولا سيما بعد ملاحظة أن الرياح لا تحمل السحاب، وإنما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.
والنظرة الصحيحة في معنى الآية- بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات- تفيدنا سرًا دقيقًا لم تدركه أفكار السابقين، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح. وأن اللقاح قد يكون بسبب الرياح، وهذا كما في المشمس والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفوًا.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنّ سنّة الزواج لا تختص بالحيوان، بل تعمّ النبات بجميع أقسامه بقوله:
﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: 3].
﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 36].
ومن الأسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض. فقد قال عز من قائل:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ [طه: 53].
تأمّل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتضح إلا بعد قرون، وكيف تستعير للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع، يهتز بنعومة لينام فيه مستريحًا هادئًا؟ وكذلك الأرض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، وكما أن تحرك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته، فكذلك الأرض، فإن حركتها اليومية والسنوية لغاية تربية الإنسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات.
تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة، ولم تصرح بها لأنها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنه كان يعد من الضروريات التي لا تقبل التشكيك‏ [واجترأ الحكيم «غاليله» بعد الألف الهجري فأثبت الحركتين «الوضعية والانتقالية» للأرض فأهانوه، واضطهدوه حتى قارب الهلكة، ثم سجن طويلاً مع جلالته، وحقوقه العلمية فصار حكماء الإفرنج يكتمون كشفياتهم الأنيقة المخالفة للخرافات العتيقة خوفًا من الكنيسة الرومية. «الهيئة والإسلام» ص 63 طبعة بغداد.].
ومن الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنًا: وجود قارة أخرى.


فقد قال سبحانه وتعالى:
﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: 17].
وهذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسرين قرونًا عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى. فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما. وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. ولكن الظاهر أن المراد بها الإشارة إلى وجود قارة أخرى تكون على السطح الآخر للأرض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنّا. وذلك بدليل قوله تعالى:
﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ [الزخرف: 38].

فإن الظاهر من هذه الآية أن البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لأن المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة فلا بد من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقًا لجزء آخر من الكرة الأرضية ليصح هذا التعبير، فالآية تدل على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلا بعد مئات من السنين من نزول القرآن.
فالآيات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ [البقرة: 115].
والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الإشارة إلى القارة الموجودة على السطح الآخر من الأرض.
والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الأرضية كما نشير إليه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة