قرآنيات

الرشد في القرآن (2)

 

السيد منير الخباز
النقطة الثانية: أقسام الرشد وأنواعه.
الرشد يقسّمه العلماء إلى ثلاثة أقسام: الرشد الاجتماعي، والرشد السلوكي، والرشد الإداري.
القسم الأول: الرشد الاجتماعي.
كما أن الإنسان الفرد قد يكون رشيدًا وقد يكون سفيهًا، كذلك المجتمع أيضًا، فقد يكون مجتمعًا رشيدًا، وقد يكون مجتمعًا سفيهًا، فما هو المجتمع الرشيد؟ وما هو المجتمع السفيه؟ المجتمع الرشيد هو الذي يركّز على النهوض الحضاري، كيف ننهض بحضارتنا؟ كيف ننهض بكياننا؟ المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يركّز على أسباب النهوض الحضاري، وأما المجتمع الذي يركز على القضايا التافهة، المجتمع الذي يركز على الرياضة، وعلى الخلافات، وعلى النزاعات، وعلى الشكليات، المجتمع الذي يركز على القضايا الثانوية ليس مجتمعًا رشيدًا، المجتمع الرشيد هو الذي يركّز على أسباب النهوض، كيف ننهض بأبنائنا نهوضًا حضاريًا؟ كيف يتم ذلك؟
مع الأسف، ما زالت مجتمعاتنا الشيعية والإسلامية لا تملك الرشد الكافي، ما زالت لا يطلق عليها أنها مجتمعات رشيدة مئة بالمئة، لأننا لا نركز على النهوض الحضاري، لا نركز على أسباب النهوض الحضاري. هذا المجتمع الشيعي والإسلامي بين أيديكم، هل لدينا مراكز ترعى الطاقات والكفاءات والقدرات؟ مراكز تحاول أن تستثمر هذه الطاقات والكفاءات وأن توظّفها في سبيل النهوض الحضاري بالمجتمع، هل عندنا ذلك؟! هل عندنا مراكز ترصد هذا المجتمع، كم طبيبًا في المجتمع؟ كم مهندسًا في المجتمع؟ كم خطيبًا في المجتمع؟ كم فقيهًا في المجتمع؟ كم مؤلفًا في المجتمع؟ كم مفكرًا في المجتمع؟ كم عاملًا في المجتمع؟ كم رياضيًا في المجتمع؟ هل عندنا مراكز تجمع هذه الطاقات وترعاها وتداريها، وتحاول أن تنميها وتوظّفها في سبيل النهوض بحضارة المجتمع ومجده؟! هل عندنا كذلك؟! ليس عندنا ذلك، إذن نحن لم نملك الرشد الكافي، لم نصل إلى ما يسمّى بالمجتمع الرشيد، المجتمع الذي يستغل طاقاتِه وكفاءات أبنائه، يستغل قدرات أفراده، لم نصل إلى هذا المستوى، فكيف نوسم بالمجتمع الرشيد؟! وكيف نحصل على الرشد الاجتماعي؟! طاقاتنا مبعثرة، قدراتنا موزعة يمينًا وشمالًا، لا مركز يجمعها، ولا كيان يوحدها ويوظّفها في صالح المجتمع والنهوض الحضاري للمجتمع.


القسم الثاني: الرشد السلوكي.
معنى الرشد السلوكي أن تكون جذّابًا في سلوكك، القرآن الكريم يمتدح النبي العظيم محمدًا   فيقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، الرسول الأعظم كان يملك جذّابية في السلوك، سلوكه جذّاب، وهذا هو الرشد. الرشد أن تكون جذّابًا، لا في شكلك وأناقتك، بل في سلوكك وأخلاقك وتواضعك، كما ورد عند الرسول  : ”إنَّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم“، أنت لا تملك الناس بالأموال، الأموال لا تجعل الناس تحبك، مهما صرفت من الأموال، مهما أغدقت من الأموال، الأموال لا تخلق لك محبة، الذي يخلق لك المحبة حسن الأخلاق. ورد عن الرسول محمد  : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا، الموطّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون“. الشخص الذي يألف ويؤلف هو الشخص الرشيد، هو الشخص الجذّاب في سلوكه، الذي يمتلك الرشد السلوكي، من خلال بسمته، وتواضعه، واحترامه للآخرين.


القسم الثالث: الرشد الإداري.
هذا هو القسم المهم في حديثنا، والمقصود به الرشد في إدارة الثروة والأموال، فهل عندنا رشد في إدارة الثروة والأموال أم لا؟ المجتمعات الخليجية - مع الأسف - مصابة بمرض وخيم، ألا وهو مرض الاستهلاك، المجتمع الخليجي مجتمع استهلاكي، مجتمع متمحّض في الاستهلاك، مجتمع مستهلِك وليس مجتمعًا منتجًا. هذه المشكلة - مشكلة المجتمع الخليجي - كتب عنها الكتاب، وتحدثت عنها الصحف ووسائل الإعلام، الدكتور سليمان عطية قبل سنين في الجامعة الأردنية طرح هذا البحث بحثًا مفصلًا، حول ترشيد الإنفاق الاستهلاكي، خصوصًا في المجتمع الخليجي.
يقول هذا الدكتور: نظرًا لندرة الموارد الطبيعية، وزيادة حجم الاستهلاك بالمقارنة مع حجم الإنتاج، وارتفاع أسعار السلع، لا بد من توجيه المستهلِك، ولا بد من ترشيد المستهلِك، هناك عاملان يضغطان على الفرد الخليجي في سبيل أن ينجر أمام ظاهرة الاستهلاك:
العامل الأول: التقدم التكنولوجي أفرز الملايين من الأدوات الصحية والكهربائية، وأنواع الأثاث، والسيارات، وأجهزة الاتصال، والتلفزيونات، وأمام هذا الكم الهائل من المنتجات يقف الفرد حائرًا، وليس أمامه إلا أن يكون مستهلِكًا، يبدّل أداة بعد أداة، ويمشي في إطار الاستهلاك.

العامل الثاني: الإعلام، الإعلام لا يخدم المستهلِك أبدًا، وسائل الدعايات والإعلانات من خلال الصحف والشاشات التلفزيونية، تبهر الفرد، فينجر للاستهلاك من دون روية وتأمل، ولذلك لا بد من خطوات يرشّد بها الاستهلاك.
الخطوة الأولى: المجتمعات الخليجية تحتاج إلى جمعية حماية المستهلك، كما يوجد في أمريكا وبريطانيا جمعيات لحماية المستهلك، كذلك تحتاج المجتمعات الخليجية إلى جمعيات لحماية المستهلك.
الخطوة الثانية: توجيه المستهلك إلى خصائص السلع، من حيث الجودة، والكم، والكيف، ومدة البقاء، لا بد من إرشاده إلى ذلك.
الخطوة الثالثة: توجيه المستهلك إلى الأساليب الدعاية، لا بد من أن نفهّم المستهلك بطلان وزيف الأساليب الدعائية المستخدمة في مجال الإعلان.
الخطوة الرابعة: لا بد من ترشيد المستهلك إلى الطريقة التي يحافظ ويوازن فيها بين دخله المحدود، وما يصرفه على السلع الاستهلاكية، خصوصًا المرأة. أخاطب أختي المؤمنة، المرأة تحتاج إلى ترشيد في مقام الاستهلاك. مع الأسف، الكثير من النساء لا بد من فستان جديد كل جديد، ولا بد في كل مناسبة من قطعة من الذهب والألماس، ولا بد من جمع الأزياء المختلفة، ولا بد من السير وراء الموضات والموديلات، على مستوى المكياج، وعلى مستوى الزينة، وعلى مستوى الأزياء، وعلى أي مستوى آخر، هي تنجر وراء الموضات والموديلات! إلى متى هذا الكم الهائل من الاستغراق وراء الاستهلاك، من دون تأمل ولا روية؟!
الكثير من الإخوة يقولون: هذه الأموال نعمة، فأين نصرفها؟! فلنصرفها على الأزياء والزينة والأثاث، فليكن تفكيرنا هكذا! نفكر في السيارة الفخمة، في الفلة الفخمة، في الأثاث الأنيق، في الأزياء الأنيقة، فلنصرف أموالنا في هذه الماديات وفي بحبوبة الترف، لماذا تمنعوننا؟! هذا ليس حرامًا، القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، زينة الله ليست محرمة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، أي: أظهر النعمة، إذا كانت عندك نعمة فأظهرها على لباسك ومسكنك وما يتعلق بك، فإذن القرآن يأمرنا بإظهار النعمة، فلماذا أنتم الخطباء والعلماء تنهوننا عن صرف الأموال في جمع الأزياء والمفاتن والزينة بمختلف أشكالها وأنواعها؟! نحن نقول: التحديث بالنعمة ليس محرمًا، لكن هناك محرمين آخرين: الإسراف والتبذير، فما هو الفرق بينهما؟


الإسراف هو الزيادة عن الحد، مثلًا: الآن مع الأسف مجتمعاتنا كلها هكذا، نحن نريد أن نتغدى، ونحن خمسة أشخاص، فنحتاج إلى غذاء يكفي خمسة، ولكننا نشتري أو نطبخ غذاء يكفي ثمانية أشخاص، ونرمي الباقي في القمامة! هذا إسراف حرام، بل من أعظم الكبائر، الزيادة عن الحد من أعظم الكبائر المحرمة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، الإسراف من الكبائر. الإسراف مثله مثل الفواحش، مثله مثل الغيبة، مثله مثل عقوق الوالدين، من الكبائر الموبقة.
أما التبذير فهو وضع المال في غير موضعه، أنا ليس عندي إسراف، ولكن أضع المال في غير موضعه، حيث آخذ أشرطة أفلام خليعة، أو أشتري أشياء غير نافعة، وضع المال في غير موضعه تبذير، ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
إذن إظهار الزينة حلال، ولكن الإسراف والتبذير حرام، فحينئذ أنتِ يا أختي المؤمنة مسؤولة عن هذه الأموال الطائلة التي تصرفينها فقط في الزينة والأزياء، أنت يا أخي المؤمن مسؤول عن هذه الأموال الطائلة التي تصرفها فقط وفقط في الرفاهية والأناقة وبحبوحة الترف.
لذلك الخطوة الأخيرة من ترشيد الاستهلاك أن تعلم يا أخي المؤمن وأن تعلمي يا أختي المؤمنة أن هناك واجباتٍ، كما هناك مباحات فهناك واجبات، إظهار الزينة مباح، جمع الأزياء مباح، لكن هناك واجبات، كإسعاف الفقراء والمحتاجين، نحن الذين نعيش في بحبوحة الترف في الخليج، ننام على الوسادة الناعمة، وننعم بالفلة الأنيقة، ونعيش في بحبوحة الترف ورغد العيش، هل نفكر في الشعوب الفقيرة؟! هل نفكر في الشعوب المحتاجة؟! شعب فلسطين، شعب العراق، شعب أفغانستان، هل نفكر في هذه الشعوب؟! هل نمد لها يد العون المادي؟! هل نساهم في إغاثتها وإنعاشها؟! ورد عن الرسول محمد  : ”ما من قريةٍ يبيت فيها جائع ينظر الله إليها يوم القيامة“، ”ليس منا من مات شبعان وجاره جائع“، جارك ليس بالضرورة أن يكون بجانب بيتك مباشرة، وقد ورد عن علي  : ”ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني“، أي أنَّ ما يستمتع به الغني هو الذي يحتاج إليه الفقير.

الآن توجد صناديق كثيرة لإغاثة العراق وفلسطين وغيرها من الشعوب الفقيرة، فهل نحن نبادر إلى إيصال الأموال إلى هذه الشعوب وإنعاشها وإغاثة ملهوفها؟! أم أننا لا نفكر إلا في بطوننا وجيوبنا وأولادنا وزوجاتنا وكيف ننام مرتاحين هانئين من دون أن نسأل عن أولئك الذين يتوقون إلى لقمة الخبز فلا يجدونها ولا يحصلون عليها؟! من هنا، الجشع والشره المادي، مرض الترف الذي يخيّم علينا، هو الذي قتل فينا روح البذل والعطاء، ماتت فينا روح البذل، ماتت فينا روح العطاء، لأن أجواء الترف لا تتلاءم مع أجواء البذل والعطاء، الأجواء المادية تصرع الأجواء الروحية، أجواء الترف إذا خيّمت على مجتمع منعته من أن يتحرك نحو البذل والعطاء.
لاحظوا تاريخ أهل البيت، سيرة أهل البيت تربّي أبناءهم على البذل والعطاء، لا على الترف والاستغراق المادي، لاحظوا أهل البيت جميعًا. القرآن الكريم يمدح أهل البيت: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ هم محتاجون إلى الطعام، ولكن مع ذلك يطعمونه الآخرين، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾، علي بن أبي طالب الذي يتصدق بخاتمه وهو راكع، حتى مدحه القرآن على روح البذل والعطاء: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.


علي بذل خاتمه وهو راكع، لكنه بذل نفسه - وهي أعظم من خاتمه - حيث بات على فراش رسول الله، وهذا نهاية البذل والعطاء، علي بات على فراش رسول الله، يفديه بنفسه، ”يا رسول الله، أتسلم؟ قال: بلى، فسجد لله شكرًا، وقال: الحمد لله الذي جعلني فداء لرسول الله  “، بات على فراش رسول الله يحتمل الموت والأذى، في سبيل التضحية بروحه، وفي سبيل مبدئه، وفي سبيل عقيدته، وفي سبيل نبيه ومولاه.
علي   كان سيفًا بين يدي رسول الله في المعارك الطاحنة، يبذل نفسه وجراحه وعرقه وبدنه في سبيل رسول الله  ، وكما كان عليٌ فداءً لرسول الله، كان أولاد علي فداءً لأولاد رسول الله، علي جعل أولاده فداءً لأولاد الزهراء، فداءً لأولاد رسول الله. في يوم صفين، الإمام علي   أخذ الراية، وأعطاها محمد بن الحنفية، فقيل له: يا أمير المؤمنين، كيف تقدم محمد بن الحنفية وعندك الحسنان؟ الحسن والحسين أفضل من محمد بن الحنفية، فكيف تعطي الراية بيد محمد وتؤخر الحسن والحسين؟ قال: محمد ولدي، وهذان ولدا رسول الله، لا أريد أن أجازف بحياتهما، أنا أجعل ولدي فداءً لأولاد رسول الله. علي   يفكّر في المحافظة على أولاد الزهراء، على أكباد الزهراء، على بضعة الزهراء، حسن وحسين، ويقول: أولادي كلهم يذهبون فداءً لأولاد فاطمة، فداءً لأولاد رسول الله  .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة