من التاريخ

عصر الغيبة الكبرى (1)

بدء الغيبة الكبرى
كانت وفاة عليّ بن محمّد السمريّ (329هـ) إيذاناً بابتداء عصر الغيبة الكبرى. وكان التوقيع الصادر عن الإمام عليه السلام إلى عليّ بن محمّد قبل وفاته بستّة أيّام هو الإعلان عن انتهاء فترة الغيبة الصغرى. فلم تكن الغيبة الكبرى واحتجاب الإمام عليه السلام عن شيعته وقواعده أمراً مفاجئاً وغير متوقّع، بل قد مهّد لهذه الغيبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام الّذين تواترت عنهم الأخبار الدالّة على ذلك، فضلاً عن الدور الّذي لعبته الغيبة الصغرى في ذلك. ونصّ التوقيع المبارك عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:

"بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة فلا ظهور إلّا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمن ادّعى المشاهدة، قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كذّاب مفترٍ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"1.

وهناك جملة من الأمور والقضايا الّتي لا بدّ من الإطلالة عليها في هذا البحث وهي:

1- خصائص الغيبة الكبرى

أ ـ أوّل ما تمتاز به هذه المرحلة هو انقطاع الناس عن القائد الإسلاميّ والموجّه الإلهيّ للتجربة الإسلاميّة، حتّى ينقضي أمد هذه الغيبة الكبرى في اليوم الموعود، حيث يشرق فيه نور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ويظهر لعامّة الناس، وهي على عكس الفترات السابقة الّتي عاشتها الأمّة في العصر النبويّ وعهود الأئمّة عليهم السلام، كما أنّها تختلف عن مرحلة الغيبة الصغرى والّتي امتازت بالاتّصال غير المباشر مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

ب ـ انتشار الظلم والجور، وانحسار الإسلام عن الحياة السياسيّة.

ج ـ التشكيك في وجود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لاحتجابه عن واقع الحياة ولطول زمان غيبته عجل الله تعالى فرجه الشريف، ثمّ طغيان التيّارات الضالّة الّتي تُسبّب بروز ظاهرة التشكيك واتّساعها في حياة الأمّة الإسلاميّة.

2- كيفيّة احتجاب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف

يمكن تصوير تحرّك ونشاط الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال احتجابه في عصر الغيبة الكبرى بأحد شكلين:

أ ـ أطروحة خفاء الشخص: وهي الأطروحة المتعارفة في ذهن عدد من الناس، وأنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يختفي بجسمه عن الأنظار، فهو يرى الناس ولا يرونه، وبالرغم من أنّه قد يكون موجوداً في مكان إلّا أنّه يُرى المكان خالياً منه.

روى الصدوق عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال عن القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف: "لا يُرى جسمه ولا يُسمّى باسمه"2.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحلّ لكم تسميته"3.

وهذه الأطروحة أسهل افتراض عمليّ لاحتجاب الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن الناس، ويتمّ ذلك عن طريق الإعجاز الإلهيّ، وهذا الاحتجاب قد يزول أحياناً عندما توجد مصلحة في زواله.

ب ـ أطروحة خفاء العنوان: ونريد بذلك أنّ الناس يرون الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بشخصه، دون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته، فقد ذكر الشيخ الطوسيّ في الغيبة عن السفير الثاني أنّه قال: "والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه"4.
3- الشيعة في عصر الغيبة الكبرى

أثمرت الثورات العلويّة ضد الحكم العبّاسيّ ظهور دول شيعيّة. وانتشر التشيّع في القرن الرابع الهجريّ في كافّة أصقاع العالم الإسلاميّ، وبدأت رقعته بالاتّساع أكثر في القرون الخمسة الّتي تلته، وظهرت الفرقة الإسماعيليّة في إيران، ووصل السادات المرعشيّون إلى سدّة الحكم في مازندران وقزوين في القرن الثامن، وحظي العلّامة الحلّي ونجله فخر المحقّقين في بلاط السلطان محمّد خدابنده الّذي أعلن عن تشيّعه بمكانة سامية وانتشر المذهب الشيعيّ بشكلٍ أكبر. وفي بداية القرن العاشر الهجريّ ظهر الشاه إسماعيل الصفويّ ذو النزعة الشيعيّة، وجعل إيران دولة واحدة والمذهب الشيعيّ مذهباً رسميّاً للدولة.

وكذلك بدأت الحركات الثوريّة الشيعيّة نشاطها المميّز ورفعت لواء الجهاد ضدّ الكفر والطاغوت، ومارست النضال ضدّ كافّة ألوان الظلم والجور. وكانت لهم لمساتهم على المسرح الثقافيّ عبر التبليغ الهادئ، فقد فتح إدريس بن الحسن المثنّى بلاد المغرب من خلال التبليغ، وهكذا الحال في أندونيسيا الواقعة في الشرق الأقصى للعالم الإسلاميّ. وفي القرن الخامس للهجرة اعتنق جمع غفير من الهنود الإسلام على يد اثنين من الشيعة. وجعل آل بويه الثقافة الإسلاميّة وتعاليم آل البيت عليهم السلام أساس حكومتهم.

وإذا كان هولاكو قد أمر بإعادة بناء مسجد الخليفة ومرقد الإمام الكاظم عليه السلام بعد قتله لـ(900) ألف من الأبرياء من أهالي بغداد، فإنّما تمّ هذا الأمر بحنكة وشجاعة مؤيّد الدِّين العلقميّ والشيخ نصير الدِّين الطوسيّ، وهما من أبرز الشخصيّات الشيعيّة آنذاك. وكان هدف الشيخ الطوسيّ من وراء ذلك هو الحيلولة دون سفك المزيد من الدماء. وقد استطاع عبر نفوذه في مؤسّسات المغول إنقاذ العديد من علماء الإسلام من سطوتهم وسيوفهم، وجعل أعداء الإسلام ينقادون للإسلام والإيمان وشعائر التشيّع.

وببركة النهضة الثوريّة لعلماء الشيعة أُدخل الدِّين الّذي سُحِق تحت وطأة المغول إلى قلوب الفاتحين المغول أنفسهم، بل نُشر الدِّين بزخم هائل.

وعلى سبيل المثال فقد ظهرت مدرسة الشيخ المفيد الّتي جمعت بين مدرستي قمّ وبغداد، وأخذت سيراً تصاعديّاً منذ عهد الغيبة الكبرى وحتّى يومنا هذا. وخَلَف الشيخَ المفيد السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ اللذان أسّسا مدرسة الفقهاء الأصوليّة. وقد أدخل الشيخ الطوسيّ الفقه مرحلة جديدة بفضل الأفكار البكر الّتي لم يسبقه إليها أحد، وترك تصانيف علميّة قيّمة في مختلف الأصعدة. وتمكّن هؤلاء العلماء من إخراج المرجعيّة الشيعيّة من الانزواء والعزلة، وكانت لهم إحاطة بمختلف العلوم كالفقه والكلام والتفسير والمباني العلميّة لأهل السنّة، ممّا أتاح لهم فرصة الجلوس على كرسيّ الكلام والفقه في بغداد، وانثالت عليهم وفود الطلّاب من سائر المذاهب.

لكنّ الفتن والاضطرابات أجبرت الشيخ الطوسيّ على الهجرة إلى مدينة النجف الأشرف الّتي تحوّلت إلى مركز فقهيّ للشيعة فيما بعد (448هـ). وبرزت حلب إلى جانب النجف ـ كمركز فقهيّ ـ على يد سلّار وهو من تلامذة السيّد المرتضى، وكذلك الحلّة لوجود ابن إدريس الحلّي فيها، وظهر فيها فقهاء كبار أمثال: المحقّق الحلّي والعلّامة الحلّي، وهكذا جبل عامل الّذي برز فيه الشهيد الأوّل والشهيد الثاني اللذان بلورا مشروع الفقه السياسيّ الشيعيّ.

ــــــ

1- الغيبة، الطوسي، م.س: 242.
2- بحار الأنوار، م.س: 51/143.
3- م.ن.
4- من لا يحضره الفقيه، م.س:2/520.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة