مقالات

اختزان مشاعر الهم في أيام الغيبة

الشيخ عباس القمي

على الموالي والمنتظر لظهور الحجة بن الحسن (عليه السلام) أن يكون مهمومًا مغمومًا لأجل الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة وذلك لأمور منها:

غيابه (عليه السلام) عنّا بحيث لا نتمكّن من الوصول إليه وإنارة أبصارنا بالنظر إلى جماله فقد روي في عيون الأخبار عن الإمام الرضا (عليه السلام) في ضمن حديث يتعلّق بالحجة (عليه السلام) أنّه قال: ثم قال بأبي وأمّي سميّ جدّي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام) عليه جيوب النور تتوقّد بشعاع ضياء القدس كم من حرّى مؤمنة وكم من مؤمن متأسف حيران حزين عند فقدان الماء المعين .

ونقرأ في دعاء الندبة: عزيز عليّ أن أرى الخلق ولا ترى ولا أسمع لك حسيسًا ولا نجوى عزيز عليّ أن تحيط بك دوني البلوى ولا ينالك منّي ضجيج ولا شكوى بنفسي أنت من مغيّب لم يخل منّا بنفسي‏ أنت من نازح ما نزح عنّا بنفسي أنت أمنيّة شائق يتمنّى من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنّا بنفسي أنت من عقيد عزّ لا يسامى ... عزيز عليّ أن أبكيك ويخذلك الورى ؛ إلى آخر الدعاء الذي هو نموذج لمناجات من ارتشف من كأس محبّته .

ومنها: عدم تمكّنه (عليه السلام) من إجراء الأحكام والحقوق والحدود ورؤيته. إنّ حقّه في يد غيره فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لعبد اللّه بن ظبيان: قال: قال يا عبد اللّه ما من عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلّا وهو يتجدد فيه لآل محمد حزن قلت: فلم؟ قال: لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم‏ .

ومنها: ظهور جمع من لصوص الدين وقطاع طريق المذهب من كمينهم وبثّهم الشكوك والشبهات في أفكار العوام بل والخواص من الناس حتى خرج الناس من الدين أفواجًا وعجز العلماء الحقيقيون عن إظهار علومهم وتحقق ما وعد الصادقان (عليهما السّلام) بوقوعه .

روى الشيخ النعماني عن عميرة بنت نفيل أنّها قالت: سمعت الحسين بن عليّ (عليه السلام) يقول: لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتى يبرأ بعضكم من بعض ويتفل بعضكم في وجوه بعض ويشهد بعضكم على بعض بالكفر ويلعن بعضكم بعضًا فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير فقال الحسين (عليه السلام) : الخير كلّه في ذلك الزمان يقوم قائمنا ويدفع ذلك كلّه .

وروى الشيخ النعماني أيضًا عن الامام الصادق (عليه السلام) حديثًا بهذا المضمون وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال لمالك بن ضمرة: يا مالك بن ضمرة كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا وشبّك أصابعه وأدخل بعضها في بعض فقلت: يا أمير المؤمنين ما عند ذلك من خير قال: الخير كلّه عند ذلك يا مالك عند ذلك يقوم قائمنا فيقدّم سبعين رجلًا يكذبون على اللّه وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) فيقتلهم ثم يجمعهم اللّه على أمر واحد .

وروي أيضًا عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: لتمحصنّ يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين وإنّ صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها .

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضًا انّه قال: واللّه لتكسّرنّ تكسّر الزجاج وإنّ الزجاج ليعاد فيعود كما كان‏ واللّه لتكسّرنّ تكسّر الفخّار فإنّ الفخّار ليتكسّر فلا يعود كما كان وواللّه لتغربلنّ وواللّه لتميزنّ وواللّه لتمحصنّ حتى لا يبقى منكم إلّا الأقلّ وصعّر كفّه .

وهناك أخبار كثيرة بهذا المضمون فقد روى الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) في كمال الدين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: كأنّي بكم تجولون جولان الإبل تبتغون المرعى فلا تجدونه يا معشر الشيعة .

وروي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال لعبد الرحمن بن سيابة: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم يتبرأ بعضكم من بعض فعند ذلك تميّزون وتمحّصون وتغربلون ؛ وروي أيضًا عن سدير الصيرفي أنّه قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) فرأيناه جالسًا على التراب وعليه مسح‏ خيبري مطوّق بلا جيب مقصّر الكمّين وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ذات الكبد الحرى قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه وأبلى الدموع محجريه‏  وهو يقول: سيدي غيبتك نفت رقادي وضيّقت عليّ مهادي وابتزّت منّي راحة فؤادي سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد فما أحسّ بدمعة ترقى من عيني وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا إلّا مثّل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها وبواقي أشدّها وأنكرها ونوائب مخلوطة بغضبك ونوازل معجونة بسخطك .

قال سدير: فاستطارت عقولنا ولها وتصدّعت قلوبنا جزعًا من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل‏  وظننا أنّه سمت‏  لمكروهة قارعة أوحلّت به من الدهر بائقة فقلنا: لا أبكى اللّه يا ابن خير الورى عينيك من أيّة حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك؟ وأيّة حالة حتمت عليك هذا المأتم؟ قال: فزفر  الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه واشتدّ عنها خوفه وقال: ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خصّ اللّه به محمدًا (صلى الله عليه واله) والأئمة من بعده وتأملت منه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال اللّه تقدّس ذكره: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، يعني الولاية فأخذتني الرقّة واستولت عليّ الأحزان ... الخ‏ .

ويكفي هنا هذا الخبر الشريف فبما أنّ تفرّق الشيعة وابتلاؤهم في أيام الغيبة وانقداح الشكوك في قلوبهم كان سببًا لبكاء الإمام الصادق (عليه السلام) ونحيبه وسهره قبل وقوع الغيبة بسنين فحريّ بالمؤمن المبتلى بهذه الداهية والغارق في هذا البحر الموّاج الهائل أن يديم البكاء والنوح والنحيب والحزن والهمّ والغم والتضرّع إلى اللّه تعالى .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة