فجر الجمعة

دعوة للمحافظة على مكتسبات شهر رمضان المبارك

الأخوة الكرام الأخوات المؤمنات، في خطبتي الأولى هاته، سأتحدث عن موضوع تحت عنوان "المحافظة على مكتسبات شهر رمضان المبارك".
قال تعالى في كتابه الكريم: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}(١)، روي والله أعلم أن هذه الآية ضُربت مثلاً لمرأةٍ في قريش كانت تغزل الغزل فإذا جاء آخر النهار نقضت غزلها، وهنا القرآن الكريم سواءً هي فعلاً كانت كذلك أي أنها قصة واقعية أو هي قصة في أذهان الناس، راسخة في أذهان المجتمع بهذه الكيفية، أياً كان هي، فالقرآن يستفيد من ذلك الحدث ومن تلك الواقعة، ومن تلك القصة المترسخة في أذهان الناس أيضاً، ليسقطها على أفعالنا وأعمالنا وسلوكنا ومسيرتنا الإيمانية في هذه الحياة الدنيا، ولا شك أن هناك أفرادً ينقضون غزلهم من بعد قوة أنكاثا، أسأل الله أن لا يجعلنا منهم إنه سميع مجيب. فمن يبدد أمواله فيما لا نفع فيه أو في المحرمات والعياذ بالله، فهو كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، يشتغل بمعاش جيد ممتاز (وظيفة محترمة)، ينزل إليه معاشٌ على رأس كل شهر، معاشٌ محرز ولكن في نهاية الشهر أو ربما عند التقاعد، لا تجد عنده شيئا، بل عند الممات ربما لا يجد ورثته عنده شيئا، أموالٌ تبدد فيما لا نفع فيه، أو تصرف في ما حرّم الله والمعاذ بالله.

ومن يضيّع وقته في اللهو والعبث، فهو كذلك ينقض غزله من بعد قوة أنكاثا، هذا الوقت يجري، الليل والنهار يعملان فيك، فالمفترض أن تعمل فيهما، تعمل فيهما بما تنفع به نفسك في الحياة الدنيا، وتنفع به نفسك للآخرة، تكتسب في هذا الوقت، العلم.. المعرفة.. الإيمان.. طاعة الله.. تنفع الناس، تنفع نفسك وعيالك من بعدك، تقوم بعمل معين فيه منفعة للناس وللمجتمع وإليك وإلى ذريتك، ولكن يضيّع وقته في اللهو والعبث، كما هي للأسف الشديد هذه الحالة المنتشرة الآن بين شبابنا، الذين يقضون الأوقات الطويلة في متابعة قنوات التواصل، وهذه الروابط التي يدخلون عليها من هنا وهناك، وفي النهاية يجلس ساعات وساعات وساعات، وإذا جاء وقت الامتحان لا يستطيع أن يجيب على الأسئلة، وينتهي به الأمر بعد ذلك إلى مستوى ضعيف، لا ينفعه للتسجيل في جامعة ولا في معهد، السبب ضياع الوقت الذي كان من المفترض به أن يقضي شبابه.. نشاطه، في المذاكرة والمثابرة والتحصيل، يبدد ذلك الوقت فيما لا نفع فيه.

 

كذلك، من يضيّعون حسناتهم في ظلم العباد، والمعاذ بالله، يفعل حسنات.. يتصدق.. يصلي.. يصوم، ولكن والمعاذ بالله يقوم بظلم العباد، فهو أيضاً يقوم بنقض غزله بعد قوة أنكاثا، من يبطل صدقاته بالمن والأذى، يتصدق ويمن، يتصدق ويرائي، يتصدق سمعة ورياءً، ينقض غزله من بعد قوة أنكاثا، كثير وكثير للأسف.

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (٢)، عنده جنة نخيل، وأعناب تجري من تحتها الأنهار، فيها من كل الثمرات، وقت الحاجة، وقت الكبر ووقت الضعف، يكون بأمس الحاجة إلى تلك الجنة وخيراتها، وعنده ذرية ضعفاء، أولاد صغار أيضاً يحتاجون إلى الإعانة والمصروف، فيصيبها إعصارٌ فيه نار فتحترق تلك الجنة، فيبقى يقلّب يديه متحسر بدون شيء، هكذا والمعاذ بالله مصير الإنسان يوم القيامة، حينما يأتي ويقول أنا فعلت كذا وكان عندي حسنات وكان وكان وكان، ولكن في وقت الحاجة إليها والمعاذ بالله، يراها قد ذهبت واحترقت، يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: {۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (٣)، لا تجعل ذلك العمل يذهب هباءً منثورا، فقد روي عن رسول  الله ص: "من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ومن قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة ومن قال:لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير، قال: نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أن الله عز وجل يقول: {۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}" (٤)، كثير نقول سبحان الله والحمد لله ونصلي على محمد وآل محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد-، ونقرأ آيات من الذكر الحكيم، ونصلي وندفع صدقة ووو، ولكن والمعاذ بالله قد تذهب تلك كلها في غيبة إنسان مؤمن، في بهتان، أنت حينما تبهت مؤمن من المؤمنين أو تغتابه، كم تحطم من تلك الشخصية؟! والمعاذ بالله، كم تقضي على شخصية وتنهيها، وتنهي مستقبلها، تنهي وجودها الاجتماعي، تنهي تلك الشخصية في المجتمع، كأن تلك الشخصية في وسط المجتمع لا قيمة لها ولا اعتبار، وقد ينجر ذلك الكلام السيء على تلك الشخصية والمعاذ بالله أو على تلك المرأة، ينجر على ذريته أو ذريتها، أولاده وبناته، وربما بناته والمعاذ بالله ومن القذف فيه والبهتان فيه، ينكفئ الناس عن خطبة تلك البنات، وأنت والمعاذ بالله تتحمل مسؤولية ذلك، أنت نعم! لا تدري ما أثر حصاد لسانك، لا نعلم مدى حصاد ألسنتنا والمعاذ بالله، جاء في الرواية عن رسول الله ص أنه قال: "أتدرون ما المفلس؟ فقيل: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له، فقال:المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" (٥)، أعاذنا الله وإياكم من ذلك، يأتي برصيد كبير من الحسنات، ولكن كل ذلك الرصيد يؤخذ منه ويعطى للآخرين، ويبقى هو والمعاذ بالله بلا شيء، بل يؤخذ من سيئات الآخرين وتطرح عليه، إذن نحن في هذا الشهر الفضيل والحمد لله، كنا وكما قلت في يوم العيد في مضمار سباق نحو الله.. نحو الطاعات.. نحو العمل الخيري.. نحو العلاقات الاجتماعية الطيبة، في سلوك طيب مع أهلنا مع أخواننا مع أبنائنا مع مجتمعنا مع الله سبحانه وتعالى، في كل شيء، هذا المكتسب نسعى وبقدر ما استطعنا أن نحافظ عليه، هذه المكتسبات بعضها طاعات وقربات إلى الله سبحانه وتعالى.

صرتُ في شهر رمضان أحافظ على صلاة الجماعة في أوقاتها فلأبقى أحافظ، فهذه نعمة وفضيلة من الله سبحانه وتعالى، أحافظ عليها ما استطعت، ربما أنا كانت في ظروف العمل تمنعني من حضور صلاة الجماعة ولكن في الأوقات التي تكون لدي فرصة لحضور صلاة الجماعة أسعى لأحافظ عليها، صرتُ أتلو القرآن في شهر رمضان، لا أقول للقرآن وداعاً مع السلامة، قرأناك في شهر رمضان وانتهى، وانتظر حتى يأتي رمضان القادم حتى نرجع نقرأك، اجعل لك جدول قراءة قرآنية، إذا كنت تقرأ في شهر رمضان جزء، اقرأ في غير شهر رمضان ولو ربع جزء، نصف حزب. وصلنا أرحامنا، لنحافظ على صلة الرحم، نستمر عليها، حضرنا في مجالس الذكر في شهر رمضان المبارك، حضرنا مجالس العلماء، حضرنا المآتم فلنحافظ على ذلك،  فلتكون لي عادة لحضور هذه المجالس العلمية والمجالس الوعظية والمجالس التي تكون مليئة بذكر محمد وآل محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد- تصدقنا، حفظنا مسألة علمية، أو تفسير آية، أحاول أن استمر في العلم والمعرفة، معرفة الأحكام الشرعية معرفة كتاب الله معرفة ما أوجب الله سبحانه وتعالى علي، هذا من جانب، من الجانب العملي نحو الخيرات نحو الفضائل والمبرات والصالحات والمعارف وتلاوة القرآن.


الجانب الآخر الجانب التركي، (جانب الترك)، أنا في شهر رمضان امتثلت لأمر الله ابتعدت عنما حرّم الله تورعت عما حرّم الله، أحافظ على ذلك الورع، ألتزم بترك ما حرّم الله عليّ، وبترك السيئات، أنا احترمت الشهر فجزاك الله خير جزاء المحسنين، ابتعتدت وقلت اللهم إني امرء صائم في شهر رمضان المبارك، حافظ وحافظ على ذلك السلوك وتلك السيرة الحسنة وذلك المكتسب الطيب، كنت تترفع في شهر رمضان، عن سماع غيبة أو نميمة أو تكذب أو تسمع كذبة أو كلاماً لاهياً، فحافظ على هذا المكتسب واجعله لك سيرة حسنة، جاء في الحديث عن الإمام الباقر ع: "ما من شيء أحب إلى الله عز وجل من عمل يداوم عليه وإن قل" (٦)،  داوم على عملٍ معين وإن قل، ألاحظ على بعض الأفراد -وهذه ظاهرة طيبة-، أنه صار يأتي إلى المسجد  في صلاة الفجرالآن وقد خرج شهر رمضان، ألاحظ عليهم أنهم استمروا في حضور صلاة الفجر، هذه حسنة طيبة وأمر وعمل طيب وجميل.


الجانب الثالث، الإرادة المستمرة، مجاهدة النفس، الاستمرار على هذه الطاعات والقربات وترك السيئات، يحتاج المؤمن إلى مجاهدة، هذه النفس تحتاج إلى مجاهدة والمجاهدة تحتاج إلى إرادة لابد من وجود إرادة وعزيمة، هذه العزيمة يجب أن تستمر عندي أنا في شهر رمضان، كانت عندي عزيمة وإرادة قوية للاجتناب عما حرّم الله، والامتثال بما أمر الله، والتخلّق بأخلاق الصالحين، هذا نتيجة عزيمة وإرادة، المفترض هذه الإرادة ولمدة ثلاثين يوم تقوى عندي وتستمر هذه الإرادة والعزيمة، لأن المفترض أن شهر رمضان يصنع فيَّ العزيمة والإرادة، فهذه الإرادة المفترض أن أحفاظ عليها وأنميها وتبقى مستمرة، هذه العزيمة هي عزيمة الإيمان.. عزيمة المؤمنين.. عزيمة المتقين، الإنسان بهذه الإرادة يستطيع أن يقابل ويواجه حبائل الشيطان، ووساوس الشيطان، ويستطيع أن يستقيم بهذه العزيمة والإرادة على الصراط المستقيم، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.

جاء في الرواية عن علي عليه السلام أنه قال: "جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو عدوه وغالبها مغالبة الضد ضده فإن أقوى الناس من قوي على نفسه" (٧)، النفس تحتاج أن تجاهدها على طاعة الله، النفس دائماً تجرنا إلى الكسل وإلى الابتعاد عن طاعة الله وإلى التراخي، وإلى التسويف، يقول علي ع: "جاهد نفسك على طاعة الله.."  كما قال المثل: "الشيخ من شاخَ على نفسه" ليس الشيخ من حصّل علم وتزيَّ ولبسَ عمامة وكذا، الشيخ من شاخَ على نفسه، فإن أقوى الناس من قوي على نفسه، هذا هو أقوى الناس، الذي يستطيع أن يصيطر على هذه النفس الأمارة بالسوء ويستطيع أن يتغلب عليها ويستطيع أن يحولها من نفس أمارة إلى نفس لوامة، ومن نفس لوامة إلى نفس مطمئنة، ومن نفس مطمئنة إلى نفس راضية مرضية عند الله سبحانه وتعالى، تتحول من نفس أمارة لتصل إلى درجة تكون راضية مرضية وإذا وصلت إلى ذلك المستوى، عندئذٍ تصل إلى مقامٍ رفيع، إلى مقام الرضا المتبادل بين الله وبين العبد، الله راضٍ عنه وهو راضٍ عن الله سبحانه وتعالى، وهذا مقام عظيم { ..رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..} (٨)، حالة حب، حالة عشق بين المؤمن وربه، هذا العشق وهذا الحب بين العبد وبين المعبود، ذاك مقام عظيم يصل إليه الإنسان المؤمن الذي يسعى لمجاهدة هذه النفس، حتى تصل إلى تلك المقامات السامية، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وأسأل الله أن يجعل لنا ولكم هذا الشهر الفضيل -ذلك الشهر الكريم- أن يجعله لنا ولكم زاداً ينفعنا إلى شهر رمضان القادم إن شاء الله، هذه شحنة الإيمان، شحنة التقوى، زاد المتقين، ينبغي أننا قد تزودنا زاداً ينفعنا إلى سنة كاملة، إلى العام القادم وهكذا الإنسان يرتقي حينما يحافظ على هذه المكتسبات وهذه المعطيات، وعلى زاد التقوى هذا ويزداد يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى تلك المقامات المرضية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ألا إن أحسن الحديث وأبلغه كتاب الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحيم {والعصر إن الإنسان لفي خسر…}.
 

 

—----------------

١- سورة النحل، الآية ٩٢.

٢- سورة البقرة، الآية ٢٦٦. 

٣- سورة محمد، الآية ٣٣.

٤-  أمالي الصدوق ص ٣٦٢.

٥- بحار الأنوار، ج٦٩، ص ٦.

٦- الكافي، ج ٢، ص٨٢.

٧- ميزان الحكمة، ج ١، ص ٤٥٤.

٨- سورة التوبة، الآية ١٠٠.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة