مقالات

العلاقة الجدلية بين التدين والفهم

الشيخ علي الكوراني

 

كلما تأملت في أمر التدين وحالة الناس فيه، وجدت أن المعادلة التالية صحيحة مئةً بالمئة، وهي: أن التدين هو الفهم، وعدم التدين عدم الفهم، ونقص التدين نقص الفهم! وقد ناقشني بعض الأفاضل في عمومها، وجاء بأمثلة لمن يفهم وهو غير متدين، فأثبتتُ له أنه إنما أتيَ من عدم فهمه أو من نقص فهمه!

 

ذلك أن وراء فعل الإنسان لشيء أو تركه له، معادلةً فكرية، تُريه أن من مصلحته أن يفعل أو يترك. وحتى الأفعال الغريزية يجب تفسيرها بالفهم، فما دام فيها إرادة فهي تستند إلى معادلة كلية اتخذ قرارها صاحبها وترك لغريزته أن تعمل بها. وعليه فإن عملك لتقويم سلوك إنسان، يتلخص بأن تغيّر المعادلة التي عمل بها، وتقنعه بمعادلة صحيحة نظريًّا وعمليًّا!

 

وهناك معادلات لأفعالنا في كل عمل، ومنها ما يشمل كل أعمالنا كالمعادلة التي تُدخل في حسابنا الحياة الآخرة والثواب والعقاب، فهي تقوم على فهم الإنسان للأفق الأوسع لمصلحته، بينما المعادلة التي تحذف ذلك من حسابه تقوم على حصر وجوده في دنياه، وهذا نقص في فهمه!

 

وكذلك المعادلة التي تقول: إن تدبير ربي لي خيرٌ من تدبيري لنفسي، وإن لحكم الشرعي تدبير رباني، فهي حقيقة تحتاج إلى فهم نافذ. ويقابلها أن أرجح، نظريًّا أو عمليًّا، تدبيري لنفسي على تدبير ربي!

 

وقد عبر عن ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله لعلي (عليه السلام): «يا علي إنك باق بعدي ومبتلى بأمتي ومخاصم بين يدي الله، فأعدد للخصومة جوابًا، فقلت: بأبي وأمي أنت بيّن لي ما هذه الفتنة التي أبتلى بها وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال لي: إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة، وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً، وتجاهد من أمتي كل من خالف القرآن وسنتي من يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدين، إنما هو أمرُ الرب ونهيه! فقلت: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلح عند الخصومة يوم القيامة، فقال: نعم. إذا كان ذلك كذلك فاقتصر على الهدى، إذا قومك عطفوا الهدى على الهوى، وعطفوا القرآن على الرأي، فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج من القرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا، فاعطف أنت الرأي على القرآن. وإذا قومك حرفوا الكلمَ عن مواضعه عند الأهوال الساهية، والأمراء الطامحة، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة، أهل الإفك المردي والهوى المطغي، والشبهة الخالفة، فلا تنكلن عن فضل العاقبة، فإن العاقبة للمتقين». (الاحتجاج : 1 / 289 ، والدر المنثور : 6 / 407 ، ومجمع الزائد : 1 / 180).

 

الفهم في عمقه هو العقل

الفهم في عمقه هو العقل، فإذا غلبه هوى الحمق والجهل، فهو ليس فهماً ولا عقلاً وإن كان شبيهاً به. ولذا أجاب الإمام الصادق (عليه السلام) من سأله: «ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان. قال قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل». (الكافي : 1 / 11).

 

ويكفي لإثبات عدم فهم معاوية أنه اشتغل كل عمره، وبذل جهوده في الليل والنهار، وتحمل أنواع المتاعب، وخاض مخاطر الحروب، فأسس دولة بل أمبراطورية كبيرة، كانت أعز شيء عليه لأنه دفع ثمنها غاليًا جدًّا. لكنه سلمها عن سبق قصد وإصرار، لولده يزيد وهو يعلم ويشهد أنه سوف يبددها ويدمرها، فقد كان يردد، وأحيانًا يصيح: «لولا هوايَ في يزيد لأبصرت رشدي»!. (تاريخ دمشق : 59 / 61 ، و 214 ، وسير أعلام الذهبي : 3 / 155 ، وتاريخ الطبري : 4 / 241). «قال ابن حجر الهيثمي: فيه غاية التسجيل على نفسه بأن مزيد محبته ليزيد أعمت عليه طريق الهدى! وأوقعت الناس بعده مع ذلك الفاسق المارق في الردى»! (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية للحافظ محمد بن عقيل / 61).

 

وقد طال مرض معاوية فكان باستطاعته أن يرتب وصيته، ويتجنب الخطر على دولته بعد وفاته. فقد أصابت الَّلقوة، وهي اعوجاج الفم، حتى صار فمه تحت أذنه! وأصابته بردية شديدة! وخرجت في ظهره قرحة عميقة! وأصابته هَلْوَسَة، فكان يرى عليًّا (عليه السلام) وحجر بن عدي وعمرو بن الحمق ومن قتلهم، كأنهم أرواح تطارده!

 

قال ابن الأعثم: 4 / 344: «وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به وكان في مرضه يرى أشياء لا تسره! حتى كأنه ليهذي هذيان المدنف وهو يقول: اسقوني اسقوني، فكان يشرب الماء الكثير فلا يروى! وكان ربما غُشيَ عليه اليوم واليومين، فإذا أفاق من غشوته ينادي بأعلى صوته: ما لي وما لك يا حجر بن عدي! ما لي وما لك يا عمرو بن الحمق! ما لي وما لك يا ابن أبي طالب»! (راجع عجائب حالته في : جواهر التاريخ : 2 / 85 ، والطبري : 4 / 245).

 

ولكنه مع كل ذلك أصرَّ على تسليم دولته إلى شاب أهوج مدمن خمر، وهو يعرف أنه ربما دمرها وأنهى آل أبي سفيان إلى غير رجعة! فلو كان يفهم، لما وضع كل جهوده على كف عفريت! ولو كان يفهم لما اشترى سنين من نعيم السلطة، بالخلود في العذاب!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد