لقاءات

الشيخ حبيب حمادة: فوائد الصيام وحكمه العجيبة وأسراره الفريدة أكثر من أن تحصى (1)


نسرين نجم

قال تعالى في محكم كتابه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". تأتي فريضة الصيام بأبعادها الفلسفية لصيانة الروح وتربيتها على التقوى في جميع المجالات، ولتعديل غرائز الإنسان وتقوية إرادته والتقرب أكثر من خالقه، ولتثبيت العلاقة الخاصة مع الله تعالى وهو ما أشارت إليه السيدة الزهراء (ع): "والصيام تثبيتًا للإخلاص" أو كما قال أمير المؤمنين علي (ع): "والصيام لبتلاء لإخلاص الخلق"..
فشهر رمضان المبارك فرصة سنوية للثورة والانتفاضة على الذات لتأديبها وتهذيبها وتدريبها نحو الأفضل... عن فلسفة الصوم وأسراره كان لنا هذا الحوار مع سماحة الشيخ حبيب حمادة:

* الصوم ومعرفة النفس:
 فريضة الصيام من الفرائض الأساسية في أركان الإسلام التي لها أجر وثواب عظيمان، إلى جانب فضائلها وقيمتها الروحية عند الله عز وجل، لها بُعد فلسفي مهم جدًّا، حول فلسفة الصيام يحدثنا سماحة الشيخ حبيب حمادة بالقول: "لا شك بأن الصيام في شهر رمضان من أسمى الفرائض وأشرف العبادات وأعظم الطاعات والقربات. ولذلك نصت الروايات المستفيضة والمعتبرة على أنه إحدى الدعائم التي بني عليها الإسلام جنبًا إلى جنب الصلاة والزكاة والحج. وقد ورد في فلسفة الصوم وفوائده عامة وفي شهر رمضان خاصة الكثير من الحكم العجيبة والأسرار الروحانية الغريبة والدروس التربوية حتى إننا نجد الفقهاء أيضًا تعرضوا للعديد منها في بداية الكتب الفقهية المعدة للاستنباط والاستدلال الفقهي انطلاقًا من النصوص الدينية والروايات المأثورة مما يكشف عن روحانية هذه الفريضة المقدسة. ويبدو لنا أن الفقيه ينقل أيضًا في موسوعته عن الفقيه الآخر الكلمات اللطيفة بعض ما ورد في بيان أسرار هذه العبادة، كما نلاحظ صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي ت 1266 ج 19 ينقل عن صاحب الحدائق الناضرة الشيخ يوسف البحراني ت 1186  في الفائدة الثالثة ج 13 أنه : ((لو لم يكن فيه إلا الارتقاء من حضيض النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالملائكة الروحانية، لكفى به منقبة وفضلًا)). كذلك في مهذب الأحكام للسيد عبدالأعلى السبزواري ت 1414 . والذي نفهمه أن الصيام في شهر رمضان ينطوي على فوائد جمة صحية ونفسية وتربوية واجتماعية وعرفانية على تفاوت الناس في إدراك هذه المصالح والمقاصد والحكم والأسرار حتى تنتهي إلى عقل المعصوم. من ذلك ما جاء في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". فإن الصوم عبادة روحانية تنطوي على ترك الشهوات وملاذ النفس مما يهيىء الأرضية لصفاء الروح ونورانية العقل فيتنبه الإنسان للطائف المعارف الدينية وفهم الأسرار العرفانية بقدر قابليته واستعداده الروحي والفكري. ولذلك ورد في الخطبة النبوية أن أبواب الجنة في هذا الشهر مفتحة. أما كون الأرضية في أجواء شهر رمضان مهيئة فإننا يمكن أن نستشفه من خلال الخطب النبوية والروايات التي أشارت إلى خصائص شهر رمضان. فمن ذلك ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال عن شهر رمضان: ((... هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه...)). كما ورد في مضمون الرواية أن لله ملائكة موكلين بالصائمين والصائمات يمسحونهم بأجنحتهم ويسقطون عنهم ذنوبهم وأن لله ملائكة قد وكلهم بالدعاء للصائمين والصائمات لا يحصي عددهم إلا الله تعالى .

ولذلك اعتبر شهر رمضان في رواية معتبرة عن الصادق عليه السلام بأنه ربيع الفقراء. ولعل هذا من أوضح مقاصد الصيام عند المسلمين. فهو شهر المواساة وشهر الصبر. ففي الخطبة النبوية المروية عن الباقر عليه السلام بطريق أبي الورد قال قال رسول الله: ((إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر وهو شهر رمضان. فرض الله صيامه وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كتطوع صلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور... ومن أدى فيه فريضة من فرائض الله، كان كمن أدى سبعين فريضة من فرائض الله فيما سواه من الشهور. وهو شهر الصبر وإن الصبر ثوابه الجنة وهو شهر المواساة... وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره الإجابة والعتق من النار...)). ولذلك يجدر بنا أن نشير إلى بعض ما ورد في هذا الصدد من فلسفة تشريع الصيام. فقد روى الصدوق فيمن لا يحضره الفقيه بإسناده الصحيح عن هشام بن الحكم أنه سأل الإمام الصادق عن حكمة وفلسفة الصيام فقال الصادق عليه السلام: ((إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير. وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير؛ لأن الغني كلما أراد شيئًا قدر عليه. فأراد الله تعالى أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرق على الضعيف ويرحم الجائع)). وهذه حكمة اجتماعية دنيوية. ولكن هناك أسرار للصيام وراء دنيا المادة بهذا التعبير: "ويكون ذلك دليلًا له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظًا في العاجل دليلًا على الآجل؛ ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة".

وهذا التذكير بالآخرة والمحشر نلحظه في فلسفة الحج والصيام معًا. ففي الخطبة النبوية: ((واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه)). وفي رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: ((إنما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعًا ذليلًا مستكينًا مأجورًا محتسبًا عارفًا صابرًا على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب مع ما فيه من الإمساك عن الشهوات. وليكون ذلك واعظًا لهم في العاجل... ودليلًا لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا؛ فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم)). ولعل عبادة شهر شعبان تكون إعدادًا روحيًا للارتقاء في معارج شهر رمضان كما ورد في المناجاة الشعبانية: ((إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك)). ولذلك عبر عن الصيام في بعض الأحاديث النبوية أنه زكاة وتطهير للبدن ((ولكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام)). ولذلك فالأخبار في فلسفة الصيام وفوائده وحكمه العجيبة وأسراره الفريدة أكثر من أن تحصى في هذه العجالة نختم فيه سؤالكم بحديثين مباركين: الأول مروي عن الإمام الصادق عليه السلام وأيضًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ((للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره وفرحة يوم يلقى ربه)) والآخر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إن للجنة بابًا يدعى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون )).


يعتبر الصوم شهر الثورة والانتفاضة على الذات، لكن ليتحقق هذا الأمر لا بدّ من أن  يحدد المرء أخطاءه ويعرف ذاته قبل دخول هذا الشهر الفضيل، فهل ينجح المرء في ذلك؟ يجيبنا سماحة الشيخ حمادة بالقول: "الذي نفهمه -إجمالًا-من أحاديث النبي وأهل بيته الأطهار عليه وعليهم السلام - فيما يخص الصيام في شهر رمضان - أن هذه الفريضة المقدسة تحتاج إلى جانبين :
الأول: جانب سلبي يعبر عنه علماء الأخلاق بالتخلية أي التخلي عن الرذائل، وهو مجاهدة النفس أمام حظوظها البهيمية والسبعية والوهمية والسرابية والمعبر عنها أيضًا في بعض الروايات بجنود الجهل.
والجانب الآخر إيجابي وهو التحلي بالفضائل. قال تعالى: ((ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها)) وفي الحديث النبوي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعث سرية، فلما عادوا قال: مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر فقالوا: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس)).

ولذلك، كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله في المدينة المنورة جارية في آخر جمعة من شهر رمضان على تهيئة وتعبئة المسلمين نفسيًّا وروحيًّا ومعنويًّا لاستقبال شهر رمضان الكريم. ولعل هذا هو سر الخطب النبوية التي نلاحظ تعددها في هذا المجال. وعملية التخلية عن الرذائل تتكامل مع التحلية بالفضائل. أي أن اجتناب الرذائل الأخلاقية والسلوكية يسير إلى جنب التحلي بالفضائل الأخلاقية والعملية. لاحظوا مثلًا بعض ما ورد في الخطبة المباركة: ((وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ...أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم... أيها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازًا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه. ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه. ومن أكرم فيه يتيمًا أكرمه الله يوم يلقاه. ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه. ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه)).... إلخ
فجهاد النفس عملية متكاملة تقوم على التخلي عن الرذائل وإصلاح العيوب جنبًا إلى جنب التحلي بالفضائل والأعمال الطيبة الحسنة. ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن "أيسر الصيام هو اجتناب الطعام والشراب" مثلًا، في رواية جراح المدائني عن الصادق عليه السلام قال: ((إن الصيام ليس عن الطعام والشراب وحده... فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا. قال: وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله امرأة تسب جارية لها وهي صائمة؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بطعام! فقال لها: كلي! فقالت: إني صائمة! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إن الصوم ليس عن الطعام والشراب فقط..... قال: وقال أبو عبدالله عليه السلام: إذا صمت  فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح ودع المراء وأذى الخادم. وليكن عليك وقار الصائم. ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك )).

 لذلك، نلاحظ التركيز في الخطابات التربوية للأئمة على الإرشادات والتنبيهات والنصائح الأبوية على مراعاة آداب الصائم بل كثرة التوجيهات للاهتمام بإصلاح النفس والتخلي عن الرذائل والقبائح ومساوئ الأخلاق والأعمال والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق خصوصًا في نهار الصيام لكي نقطف ما أمكن من ثمار هذه الفريضة المقدسة في شهر رمضان؛ فلابد من مقدمات ولابد من تهيئة أرضية وإعداد واستعداد؛ لأن الآية الكريمة تقول: ((والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا)). الإمام الرضا عليه السلام  في رواية حينما دخل عليه أبو الصلت الهروي -  واسمه عبدالسلام بن صالح - في آخر جمعة من شعبان انتهز الإمام الفرصة للتذكير بهذا المعنى لاستقبال شهر رمضان، وقال له: ((يا أبا الصلت! إن شعبان قد مضى أكثره. وهذه آخر جمعة فيه. فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى. وعليك بالإقبال على ما يعنيك . وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن. وتب إلى الله من ذنوبك؛ ليقبل شهر رمضان إليك وأنت مخلص لله عزوجل.  ولا تدعن في عنقك أمانة إلا أديتها ولا في قلبك حقدًا على مؤمن إلا نزعته  ولا ذنبًا أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه...)). فعلى كل عاقل بصير أن يحاسب نفسه ويستعد لاستقبال شهر رمضان الذي يقبل بالخير والبركة والرحمة وأن يطهر قلبه من كل حقد وغل وحسد وغش وأن "يفلتر" ويصفي نفسه، ويراقبها باستمرار خاصة في العشرة الأولى من شهر رمضان ويفتش في خباياها على الدوام. وقد أشار علماء الأخلاق إلى أن البرنامج التربوي اليومي للنفس يبدأ بالمشارطة بأن يشترط على نفسه ترك المعصية والقبيح وفعل الخير والطاعة وأن يتأمل ويراقب كل عمل قبل أن يقدم عليه هل هو طاعة ولله فيه رضا أم لا ثم يحاسب نفسه في نهاية اليوم ويقوم بعملية جرد لأعماله فما وجد حسنة شكر الله عليها وما وجد سيئة ندم واستغفر وتاب وأناب والله يحب العبد التواب. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. يقبل التوبة ويعفو عن كثير. وهكذا مع الوقت سيجد تحولًا في ذاته وحياته ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)). وبعض علماء العرفان يقسم شهر رمضان إلى تخلية وتحلية وتجلية. فالتخلية في العشر الأوائل والتخلية في العشرة الثانية والتجلي في العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر المباركة. ولذلك كان رسول الله يكثف عبادته في العشر الأواخر من شهر رمضان ويعكتف ويشد المئزر ويتفرغ للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى ."

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة