قرآنيات

تفسير سورة المسد

السيد موسى الصدر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾.
صدق الله العليّ العظيم
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
"تبَّت" يعني خسرت. أمّا لماذا نُسبت الخسارة إلى اليدين؛ فلأنّ اليد هي مصدر العمل؛ وهذه الآية تبيّن بوضوح خسران أبي لهب وأتباعه، وكلّ منحرف يعرف الحقّ ثمّ ينكره، وأنّه ملعون من قِبَل الله تعالى. وكُني أبو لهب بـ"أبي لهب" حسب بعض كتب التاريخ؛ لأنّ وجهه كان يلمع كاللهب. واسمه "عبد العزى" وهو عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ابن عبد المطلّب بالذات.
﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾
قال أبو لهب: "سوف أفدي نفسي بمالي"، ولكنّ ماله وما كسبت يداه لا يكفي لنجاته؛ فهو ذليل ومكروه في الدنيا، و﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ في الآخرة.
﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾
امرأته هي أمّ جميل بنت صخر أخت أبي سفيان، عمّة معاوية، وكانت تثيره وتقوّي عزيمته في محاربة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتستعمل أساليب قذرة، وتحارب حرباً عصبيّة ضدّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فكانت تحمل صباح بعض الأيّام قطعاً من الحطب لشجر فيه شوك، وتضعها في طريق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ الزقاق في مكّة كان ضيّقاً، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لا بدّ من أن يمرّ من هذا الطريق، فيضطرّ إلى أن يحمل هذا الحطب بيده فتُجرح، أو أن يمرّ من جنب الحطب فيصيبه أذىً.
وقد وصفها القرآن وصفاً أدّى إلى ضحك الناس عليها بتكنيتها بـ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾، وهي كناية عن النمّام الذي يحاول أن ينقل الكلام من أحد إلى آخر ليفرّق بين الصديقَين. فالنزاع والخلاف مثل النار؛ لأنّه يحرق ويعذّب ويخلّف المشكلات والآفات.
كانت هذه المرأة تعبّر عن حقدها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى دعوته، فتستعمل أسلوب النميمة، فتنقل كلمات كاذبة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش وبالعكس، وكانت تثير العواطف وتحرّك المشاعر لأجل إشاعة الخلاف والنزاع وخلق صعوبات في وجه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فعُبِّر عنها بحمّالة الحطب، باعتبار أنّها حملت مرّات عدّة هذا الحطب، فوبّخها الله، وسخر منها بحمّالة الحطب، باعتبار أنّ هذا شغلٌ ما كانت ترضى به "أمّ جميل بن صخر" سيّدة بني أميّة، وما كنت تقبل أن تُكنّى بذلك.
ماذا نتعلّم من هذه السورة؟
أهمّ الدروس التي نتعلّمها من هذه السورة المباركة:
أوّلاً: مهما كانت قرابتك وصلتك بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت ضدّ سبيل دعوة الحقّ، فلا يشفع لك هذا القربُ وهذه القرابة؛ لأنّ قربكَ من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قرب ماديّ، ولكنّ عداوتك مع الله عداوة حقيقيّة، فالله أعظم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا بالنسبة إلى كلّ قريب لكلّ إنسان، فالإسلام لا يعترف بهذه العنصريّة التي كان يريد أن يعبّر عنها أعداء الإسلام.
كما هو معلوم، إنّ المنافسة بين بني هاشم وبني أميّة كانت على أشدّها، فاعتبر بنو أميّة أنّ دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعبة جديدة لأجل السيطرة، وأنّها لعبة هاشميّة، وهذا واضح في تعبيرات بني أميّة. لذلك قال أبو سفيان للعبّاس يوم فتح مكّة: يا عبّاس، لقد علا ملك ابن أخيك. قال له: ويحك! إنّها الرسالة، إنّه الدين، وليس الملك.
ثانياً: النميمة ومفعولها وتأثيرها السيّئ في النفوس وفي المجتمع وقبحها عند الله. ويكفيهم أنّ أمّ جميل هي سيّدة النمّامين، وحتماً في جِيدها يوم القيامة وفي جِيد أتباعها حبل من مسد، وبهذا الحبل يُشدّون إلى النار.
ثالثاً: الدعاية والدعوة الصادقة، واستعمال القرآن لهذا الأسلوب الرفيع في المدح وفي الذمّ.
فحينما قُرئت هذه السورة، ومن كثرة فصاحتها وقوّة تعبيرها وكثرة تشويهها لواقع أبي لهب وزوجته، أصبحت مشهورة على شفاه أهل مكّة، لدرجة أنّ "أمّ جميل" قالت لأحد أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، في محاولة فاشلة للانتقام: "سمعتُ أنّ صاحبك قد هجاني بشعرٍ، وها أنا شاعرة"، ثمّ ذمّت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشعرٍ سخيفٍ جدّاً.
فالتشويه والتعبير الدعائيّ الواردان في هذه السورة، يلفتان النظر إلى أنّ القرآن والرسالة كانا يستعملان أسلوب الدعاية في تشويق الخادم وتشويه الخائن، والتعبير الذي يدعو إلى النفرة من الخائنين والرغبة في الخادمين.

ــــــــــ
1.صباحاه: وهو نداء يطلقه العرب حين يُهاجَمون بغتةً كي يتأهّبوا للمواجهة، وإنّما اختاروا هذه الكلمة؛ لأنّ الهجوم المباغت كان يحدث في أوّل الصبح غالباً.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج18، ص175.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة