علمٌ وفكر

الفيزياء تقود إلى التوحيد (5)

د جاسم العلوي

التفسيرات المحتملة لظاهرة الضبط الدقيق والجدل الفلسفي القائم
بول ديفيز في كتابه ”الله والفيزياء الحديثة” يقول:
"يمكن اعتبار المصادفة العددية، الضرورية لوجود كون يحوي بشرًا، كدليل على المصمم الذكي".
يتحدث بول ديفيز عن أن الكون قد تم تصميمه من قبل مصمم ذكي لأجل هدف وغاية محددة وهذا يفسر هذه المصادفات العددية الضرورية لوجود كون يحوي بداخله حياة ذكية. إن بول ديفيز يتحدث عن علة غائية لهذا الكون الذي يحوي الحياة القادرة على إدراكه واكتشافه وإن هناك من خطط عن سابق قصد لكون يتطور وفق شروط ابتدائية خاصة جدًّا وقوانين وثوابت ذات موازين دقيقة جدًّا حتى يكون صالـحًا لحياة فريدة من نوعها قادرة على استكشاف هذا الكون ومعرفة أسراره.

هذه العلة الغائية للكون التي أوصلتنا إليها دلالات هذه الظاهرة الكونية والتي تحدث عنها بول ديفيز في النص السابق لا تقع في دائرة الاهتمام العلمي. فالعلوم التجريبية تسعى لفك شفرة هذا الكون والتعرف على علله الطبيعية الفاعلة والتي تفسر ظواهره. وبتعبير آخر إن هدف العلم التجريبي هو معرفة العلة الفاعلية -المادية التي تقف وراء ظواهر الكون، أما العلة الغائية لهذه الظواهر فإنها ليست من شأن العلم التجريبي وتقع في دائرة اهتمام الفلسفة والدين.

ولكن عندما تعجز النظرية عن التوصل إلى العلة المادية الفاعلة أو عندما ندرك أن لا سبيل لتفسير الظاهرة بالاعتماد على المنهجية العلمية فإنه لا مناص إلى فهم الظاهرة بالاعتماد على المنهجية الفلسفية. ومن هنا يمكن أن نعطي للظاهرة الطبيعية تفسيرًا ما ورائيًّا يأخذ بجدية بالغة العلة الفاعلية المجردة، كما سنرى فيما بعد. والآن سوف نستعرض مختلف الفرضيات الطبيعية التي تفسر ظاهرة الضبط الدقيق. وبعد مناقشة هذه الفرضيات وباستخدام نظرية التأكيد التي هي الأساس في قبول أو رفض الفرضية وفق المنهجية العلمية سنجد أن هذه الفرضيات الطبيعية لا تصلح لتفسير هذه الظاهرة وسنجد أنفسنا منساقين وراء فرضية الإله القادر والعليم، إذ هي وحدها التي تحقق احتمالية أكبر تعزز من وجود الظاهرة. وكلك العكس فإن فرضية الإله يزداد احتمالها بوجود هذه الظاهرة.

ولكن قبل أن نستعرض مختلف التفسيرات المحتملة لهذه الظاهرة، يجدر بنا أن نسأل لماذا يجب أن يكون هناك تفسير للظاهرة؟ ما الذي يدفعنا لإيجاد تفسير لهذه الظاهرة؟ وبتعبير آخر هل تحتاج ظاهرة الضبط الدقيق إلى تفسير؟

بالتأكيد، لأن لا شيء يحدث من غير سبب. فلكل ظاهرة سبب وبالتالي فإننا ملزمون بما توحيه هذه السببية القوية التي تؤكد لنا أن ما من شيء يحدث إلا وله سببه الخاص بالتحرك من أجل معرفة السبب الذي أنتج الظاهرة الطبيعية. ولكن لا حاجة في الواقع إلى هذه الدرجة من القطعية والقوة بوجود سبب يقف وراء الظاهرة بل يكفينا نوع آخر أقل درجة من هذه السببية وهي تلك السببية التي لا نجد في أنفسنا مبررًا قبليًّا لنفيها. فهذا النوع من السببية يجعل من السبب الخاص في وجود الظاهرة درجة من الاحتمال ولكن لا على نحو القطع واليقين كما هي الحال في السببية القوية، وهذا الاحتمال يكفي كي يدفعنا تلقائيًّا لبذل كل الجهد في التعرف على ذلك السبب. ومادام لا يوجد المبرر المنطقي الذي ينفي السببية فإننا ملزمون بحكم العقل كما في السببية القوية لاستقراء كل الفرضيات المحتملة للظاهرة ودراستها وتحديد أي منها الأرجح في تفسير الظاهرة.
يوجد عدد من الفرضيات الطبيعية التي تحاول أن تستوعب هذه الظاهرة ضمن الإطار الطبيعي ووفق ما توصل إليه العقل العلمي من نظريات. وهناك فرضيات التفسير غير الطبيعي وسنحصرها في فرضية الإله. وسنخضع كافة هذه الفرضيات للمعيار العلمي لنرى أيًّا من هذه الفرضيات يحقق بدرجة أكبر شروط الفرضية العلمية.
في فرضيات التفسير الطبيعي يحاول العالم أن يكشف عن السبب الطبيعي الذي ولد هذه الظاهرة، أما في التفسير الماورائي وبالتحديد فرضية الإله فإن لدينا برهان نطلق عليه برهان التصميم، وهذا البرهان كما نص عليه أحد الفلاسفة على أن ظاهرة الضبط الدقيق للكون بهدف وجود الحياة فيه يحتاج إلى تفسير، وأن أفضل تفسير هو أن الله خلق وصمم هذا الكون من أجل أن يكون حاويًا للحياة «الذكية» ولذلك يوجد سبب معقول جدًّا للإيمان بأن الله هو علة الكون الأولى.

وسنتعرض فيما يلي للفرضيات الرئيسية في تفسير ظاهرة الضبط الدقيق.

برهان اليانصيب الكوني The Cosmic Lottery Argument
يقرر وونغ في هذا البرهان أن الكون الذي يسمح بالحياة يحتاج إلى تفسير فقط
أ- إذا كانت الأكوان التي ليس بها حياة لا تختلف عن بعضها البعض بحيث يمكن أن نقسم كل الأكوان المحتملة إلى مجموعتين أكوان تسمح بالحياة وأكوان لا تسمح بها.
لكنه يرى أن هذا التقسيم غير صحيح وينطلق من مركزية بشريه ويعمينا عن حقيقة ان الاكوان المحتملة والتي لا تسمح بالحياة تختلف عن بعضها البعض. لذلك (أ) غير متحققة.
ب- إذا كان الكون الذي يسمح بالحياة يتمتع بخصائص كونية نادرة حتى لو اختلفت الأكوان التي لا تسمح بالحياة عن بعضها البعض.
لكن من المعقول أن تتمتع الأكوان التي لا تسمح بالحياة بخصائص كونية نادرة أيضًا، إنه يشبه عملية سحب كرة عشوائية من بين 1000 كرة مرقمة. فإذا سحبت كرة عليها الرقم واحد فهذا لا يجعلها تتمتع بخصائص مختلفة عن بقية الكرات وبالتالي لا نحتاج الى تفسير. ولذلك (ب) غير متحققة.
النتيجة: بما أن أ وب غير متحققتين فإن ظاهرة الضبط الدقيق لا تحتاج إلى تفسير سوى الصدفة.

دحض برهان اليانصيب الكوني Refutation of the Cosmic Lottery Argument
إن فرضية الصدفة تتناقض ومبدأ السببية في صورته القوية، ومبدأ السببية هو أحد المبادئ الضرورية في الفكر البشري. فإذا كان الكون بكل ما فيه من ذرات ومجرات وحياة يحدث مصادفة وبدون سبب فإن ذلك أشد صور التناقض مع أحد ركائز التفكير البشري. ورغم أن فرضية الصدفة لا تتناقض تمامًا مع السببية في صورتها الضعيفة، فهذه السببية تمثل درجة من الاحتمال في أن يكون للظاهرة سبب وهذا الاحتمال لا يرقى إلى اليقين بل درجة أقل من اليقين، فمن الممكن حينئذ أن يكون للظاهرة سبب ومن الممكن أن لا يكون لها سبب، إلا أن القول بفرضية الصدفة هو القول السهل ولكنه ليس الأبسط وربما يعني أن نكف عن البحث وإجهاد العقل في التعرف على سبب الظاهرة وهذا بمثابة رفع راية الاستسلام أمامها. إن القول بأن كل تلك الدقة التي يتأسس عليها الكون والحياة هو محض صدفة سيؤدي إلى توقف العقل عن التفكير والجمود على فكرة الصدفة كتفسير لكل الظواهر الطبيعية. وإذا ما تعمقنا في فرضية الصدفة إلى اقصى مدى ممكن فسنكتشف بعد قليل من التأمل أن هذه الفرضية تشكل خطورة على حركة العلوم وتطورها. فإذا كان هذا الكون الكبير وبكل ما فيه يحدث على نحو المصادفة فإن جميع الظواهر التي تبدو لنا تحدث أيضًا على نحو المصادفة وعندئذ لا حاجة للبحث عن أسبابها وهذا يهدم الأساس الذي تقوم عليه العلوم. وبغض النظر عن مآلات القول بفرضية الصدفة، دعونا نناقش وونغ في برهان اليانصيب الكوني وما ساقه من أمثلة.
برهان اليانصيب يعتمد على تخطئة الفقرة (أ) والفقرة (ب) من البرهان ويستلزم منه عدم الحاجة إلى تفسير للظاهرة سوى الصدفة.

ففي الفقرة (أ) حتى لو افترضنا وجود أكوان محتملة تختلف كثيرًا عن بعضها البعض كوجود كون من الثقوب السوداء أو كون من النجوم النيوترونية فلماذا ذلك لا يستلزم تفسير الكون الذي يسمح بالحياة. الحاجة إلى التفسير لا تتعلق بطبيعة الأكوان التي لا تسمح بالحياة.

وفي الفقرة (ب) يحاول وونغ في هذا الجزء من البرهان تقويض الفارق بين الحياة واللاحياة وهو الأمر الذي لا يقبله العقل، فالكون الحاوي للحياة عند وونغ لا يختلف عن الكون أو الأكوان التي لا تحوي الحياة وبالتالي لا نضطر إلى تقديم تفسير للظاهرة.
على أن كوننا لا يحوي الحياة فقط بل يحوي درجة من الحياة غير عادية، إنه يحوي الإنسان الكائن الذكي القادر على المعرفة وهو كذلك الكائن الذي يختزن بداخلة مشاعر وأحاسيس وطاقة روحية هائلة. كل هذه الحياة والحياة النوعية الذكية في هذا الكون تجعله بالتأكيد كوناً فارقًا ومختلفًا جدًّا عن الأكوان التي لا تحوي الحياة. إن ظاهرة الضبط الدقيق التي تتأسس عليها الحياة لا تدعم من فرضية الصدفة بل تجعل احتمال هذه الفرضية بعد اكتشاف هذه الظاهرة في وضع صعب جدًّا. فإذا كان لفرضية الصدفة درجة من الاحتمال القبلي فإن هذه الدرجة من الاحتمال تضعف بعد اكتشاف هذه الظاهرة وهذا يعني أن هذه الفرضية تسقط من الاعتبار العلمي.

إن برهان اليانصيب الكوني يلغي الفوارق بين الأكوان المختلفة، فليس هناك تميز خاص أو خصائص فريدة في كوننا تجعله متميزًا عن الأكوان الأخرى التي لا تسمح بالحياة. فجميع الأكوان تملك خصائصها الفريدة ومميزاتها الخاصة بحيث تقع جميعها في مستوى واحد.

لكن وونغ يناقض نفسه عندما لا يفرق بين الأكوان المختلفة ويسوق لنا مثال ورقة اليانصيب أو مثال الكرات المرقمة. إن فضاء العينة الذي يحوي كل النواتج للأكوان المحتملة تصبح في نظر وونغ فضاء يضم نواتج ممكنة متشابهة وبالتالي فإن احتمال اختيار أحد هذه النواتج لا يصبح، بناء على تشابهها، ضئيلًا للغاية بل يصبح في الواقع مؤكدًا. إن وونغ يقول لنا إن هذه الأكوان لا تتميز عن بعضها البعض لأنها لو تمايزت وجب علينا تقديم تفسير للكون الذي يسمح بالحياة وبما أنها في نظره تقع في مستوى واحد فإن فضاء العينة لديه يصبح بالتعبير الرياضي يضم المجموعة التالية من الأكوان (س، س، س، …) وبالتالي فإن أي اختيار سيكون احتماله مؤكدًا وليس ضئيلًا.

ثمة أمر غفل عنه وونغ وهو يسوق لنا هذه الأمثلة، ففي مثال ورقة اليانصيب ثمة من يختار الأرقام وفي مثال الكرات المرقمة هناك شخص يسحب أحد هذه الكرات، بمعنى أن هناك دائمًا من يختار ومن يقوم بعملية ترجيح أحد هذه الورقة من اليانصيب عن غيرها أو ترجيح أحد الكرات المرقمة على غيرها. وهنا نسأل وونغ من قام بعملية ترجيح في اختيار الكون الذي يسمح بقيام الحياة فيه، لابد أن يكون هناك من مرجح قام عن قصد بالترجيح. لقد اهتم كون بالمرجح (بفتح الجيم) وغفل عن المرجح (بكسر الجيم) وفي كل هذه الأمثلة نسي أن يذكر لنا من هو المرجح الذي يقوم بالاختيار. إن فرضية الإله تقول لنا إن الذي قام بعملية الترجيح إله عليم ومقتدر بينما تقول لنا فرضية الصدفة إن كل ما يحدث هو مجرد صدفة عاجزة وعمياء. من ترانا نصدق أكثر الصدفة العاجزة العمياء أم الإله المقتدر العليم.

وأخيرًا إن الأمثلة التي ساقها وونغ هي أمثلة مضللة، وذلك إن مثال ورقة اليانصيب لا ينطبق تمامًا مع فرضية الصدفة. غن هذا المثال يضعنا أمام عدد محدود من النواتج الممكنة التي تحتل فضاء العينة ولكن الحقيقة إن فضاء العينة لكل الأكوان المحتملة هو فضاء لا نهائي وليس محدودًا، وهذه الأكوان جميعها تملك ذات الإمكانات وبالتالي فإن احتمال أحدها يساوي صفرًا بحسب قانون الاحتمالات.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة