مقالات

مشروع دراسة الحركة الحسينية (4)

السيد منير الخباز

مراتب علم الإمام (عليه السلام)

مقتضى مراجعة النصوص الشريفة، فإنّ هناك ثلاث مراتب لعلم الإمام (عليه السلام):

 المرتبة الأُولى: العلم الحصولي بما هو نفس متعلقة بالبدن كسائر الأنفس، فإنّ مقتضى تعلّق النفس بالبدن تعلّق التدبير والتصرّف ارتسامُ صور الأشياء في النفس، فهذا العلم الحصولي موجود لدى الإمام (عليه السلام).

 المرتبة الثانية: العلم الحضوري الإفاضي الذي هو مقتضى كونهم ولاة الأمر، ومقتضى كونهم المشيئة الفعلية السارية، فعلمهم الحصولي خاضع ومحكوم لعلمهم الحضوري الإفاضي، وعلمهم الحضوري الإفاضي الذي هو تجسيد للمشيئة الإلهية، وإن كان في عالم الإمكان وعالم المادة يكون مجراه خاضعاً للمحو والإثبات والتغيّر والتبدّل، إلّا أنّ هذا الخضوع لقانون المحو والإثبات هل هو لقصور في القابل وهو نفس عالم المادة؛ حيث إنّ من طبيعته ومقتضياته التغيّر والتبدّل، أم هو لقصور في الفاعل؛ بمعنى أنّ هذا العلم الحضوري الفيضي الذي لهم ـ كعلم الملائكة المقرَّبين الذين هم أدوات في إفاضة هذا الوجود ـ خاضعٌ في حدّ ذاته للمحو والإثبات؟ فقد يقال: بأنّ ظاهر بعض النصوص الشريفة أنّ هذا النوع من العلم الحضوري الإفاضي هو في حدّ نفسه ـ لا بلحاظ متعلّقه ومجراه ـ خاضعٌ لعالم المحو والإثبات، ومنها هذه الرواية الواردة عن الحسين (عليه السلام) أنّه لمّا نزل شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق، فأخبره بحاله فقال: «إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء، وربّنا تبارك كل يوم في شأن، فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء ودُوِّن الرجاء فلم يبعد من الحق نفيه»[44]. وفي الأبيات المسندة إليه التي تمثل بها في يوم عاشوراء:[45]

فإن نهزم فــهزامون قدما

وإن نُغـلب فغير مغلّبينا

وما إن طبّنا جـبن ولكــن

منايانا ودولة آخــــرينا

إذا ما الموت رُفع عن أُناس

كــلاكله أنــاخ بآخرينا

قد يقال: إنّه إشارة إلى ذلك وإنّ علمهم خاضع للبداء ولقانون المحو والإثبات.

 المرتبة الثالثة: المبادئ العالية، والتي هي عبارة عن الكنز الخفي في عالم الواحدية ورقيقة العرش في ذلك العالم، فإنّ مقتضى كونهم عين هذه المبادئ العلمية العالية أنّ لهم الإحاطة بما سواه تبارك وتعالى، كما ورد في بعض الروايات الشريفة: أنّ لهم علم ما كان وما يكون وما هو كائن[46]. وبالتالي؛ في مقام المعارضة بين هذه الروايات وما ورد عنهم في بعض أحاديثهم: أنّ العلم يُحجَب عنهم فلا يعلمون، ويُبسَط لهم فيعلمون، هو ترجيح هذه الطائفة من الروايات على تلك الطائفة بلحاظ شهرتها الروائية وكثرة طرقها ـ مثلاً ـ ممّا يوجب الوثوق بها في مقام المعارضة مع الطائفة الثانية، وإنّ مقتضى الكمال ـ حيث إنّهم النسخة الأُولى من الكمال الإمكاني ـ ومقتضى أنّهم عين الكمال وصرف الكمال، كما قُرِّر في قاعدة إمكان الأشرف، أنّه ليس هناك كمالٌ يمكن حصوله لهذا المخلوق الإمكاني إلّا وكماله فعليّ له، فليس هناك مرحلةٌ وحالة منتظرة بين الإمكان والوقوع، فكل كمال يمكن نيله لمحمدٍ (صلى الله عليه وآله) وآله فهو ثابت لهم بالفعل؛ حيث إنّ إحاطتهم بما كان وما يكون وما هو كائنٌ على نحو الحضور العيني التنجيزي الذي لا يخضع لبداءٍ ولا لتغيّرٍ، فلأجل ذلك ـ ولا نريد هنا بحث المسألة بحثاً عقائدياً مفصّلاً، وحسمها من حيث الأدلة، بل هو طرح في ضمن هذه الجهة العقائدية ـ فإنّ علمهم الحضوري الإفاضي في عالم المادة محكومٌ لعلمهم بلحاظ كونهم المبادئ العلمية العالية في تمام أطوار المشيئة الإلهية. وبالتالي؛ فإنّ جريهم على وفق عالم المادة من حيث اقتضاء طبيعته التغيّر والمحو والإثبات، لا يتنافى مع إحاطتهم التامة على نحو الإحاطة التنجيزية التي لا تخضع لاحتمال التغيّر والبداء، بل هو خاضع له ومحكوم به؛ وعلى هذا الأساس يصل الكلام إلى المفردة التالية في هذه الجهة العقائدية.

المفردة الرابعة: إنّ مقتضى عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية أن تكون تصرّفاتهم في إطار علمهم، بل حتّى على الرأي الشاذ الذي لا يرى أنّ لهم العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية، فإنّما يقال به في الموضوعات الفردية، كأكل الإمام وشربه ومشيه ونومه، وأمّا الموضوعات العامة التي لها تأثير في مصير الأُمّة الإسلامية فلا يمكن أن تكون قابلة للخطأ والصواب؛ بحيث يتعرَّض مصير الأُمّة ومسيرتها لخطأ القيادة ولخطأ الإمام، فحتى على هذا الرأي الشاذ لا بدّ من التفصيل بين الموضوعات المؤثِّرة في مسيرة الأُمّة، وبين الموضوعات الفردية التي لا أثر لها على تلك المسيرة وعلى المسيرة التطبيقية للتشريع نفسه في الأُمّة الإسلامية، وبالتالي؛ فحيث إنّ صلح الحسن (عليه السلام) وحركة الحسين (عليه السلام) وحروب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الموضوعات الخارجية التي لها تأثيرٌ في مصير الأُمّة، والتي لا تنفكّ عن العصمة العلمية؛ فمن هنا عندما يُطرَح التساؤل: كيف نوفِّق بين عصمتهم العلمية في الموضوعات الخارجية وبين إقدامهم على ما يؤدّي إلى تلف الأنفس والأموال، أو إقدامهم على أُمور تكون بحسب المقاييس المادية زائلة ومنقضية، نظير ما يقع في التساؤل عن الحروب التي خاضها أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتهت بعدم الانتصار العسكري للإمام (عليه السلام)، أو إرسال الحسين (عليه السلام) لمسلم بن عقيل والذي انتهى بمقتل مسلم بن عقيل (عليه السلام)، ونحو ذلك من التصرفات والتصريحات التي صدرت عنهم عليهم السلام، والتي يُسأل عنها أنّه كيف يتمّ التوفيق بينها وبين العصمة العلمية في الموضوعات الخارجية؟

 وفي مقام الجواب تُطرَح الوجوه الثلاثة:

 الوجه الأوّل: إنّ علمهم في إطار عالم المادة علمٌ خاضعٌ للبداء والتغيّر، وهو ما أشرنا إليه في المفردة السابقة، وإنّه محل للتأمل والنظر.

 الوجه الثاني: إنّ التكاليف والأوامر التي خوطب بها الأئمّة عليهم السلام ـ فردية أو اجتماعية ـ لم تُنَطْ بعلمهم الشهودي التنجيزي، وإنّما أُنيطت بمجريات عالم المادة وما يقتضيه من قوانين التغيّر والمحو والإثبات، فجرى تكليفهم في ضمن الإطار البشري الإنساني الذي هو الجامع المشترك بينهم وبين سائر الخلق، وإن كانوا ـ بما أنّهم هم المبادئ العلمية العالية ـ مطّلعين على أنّ مسيرتهم لها مدة زمنية محدّدة، ولها نتيجة منقضية وزائلة بحسب المقاييس المادية، ولكن لم يخاطبوا فيما هو خارج هذا الإطار، وإنّما خوطبوا بما هو ضمن هذا الإطار نفسه.

 الوجه الثالث: إنّهم أُمروا على الإقدام على ما فيه قتلهم وفناؤهم وما يكونون فيه مصداقاً للصبر والمظلومية؛ كي يكون ذلك أعلى صورة التسليم والرضا بقضاء الله، كما يظهر من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء؛ حيث ورد عنه (عليه السلام): «يا إلهي، صبراً على قضائك ولا معبود سواك يا غياث المستغيثين»[47]. فالإمام (عليه السلام) مع علمه التنجيزي بسائر الأُمور، إلّا أنّ مقتضى كونه المشيئة الإلهية في إطار التشريع وفي إطار التكوين فهو أعلى صورة من صور التسليم والرضا في عالم الإمكان، والتي عند التأمّل لا نرى اثنينية وانفكاكاً بينها وبين كونه هو المشيئة الإلهية.

ـــــــــــــــ

[44]    ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص246.

[45]    ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص59. ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص40.

[46]    اُنظر: الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص147.

[47]    القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة: ج3، ص82.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة