من التاريخ

ابن الجنيد الإسكافي


هو الفقيه المعظم، الشيخ الأجل أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد الكتاب الإسكافي، من أعلام فقهاء الإمامية، وأعاظم مجتهديهم.


ولادته
ولد الفقيه الإسكافي في مدينة أسرته وأجداده (الإسكاف) على ما يقتضيه ظاهر النسبة إليها. ولم تمدنا مصادر حياته بشي‏ء عن بدايات نشاته وتحصيله، وهل أنه كان فيها أم كان ذلك ببغداد ؟
كما أنها أمسكت عن تحديد زمان ولادته، إلا أن روايته عن حميد بن زياد الدهقان المتوفى (310هـ) تساعد على أن يكون عمره وقتئذ في حدود العشرين عاماً على أقل تقدير، ليناسب تحمله ونقله عن شيخه حميد، فتكون ولادته على ضوء ذلك في حدود سنة (290هـ).
هذا كله على فرض روايته عنه في أخريات سني حميد بن زياد وإلا لكانت ولادته قبل ذلك.


كنيته وأشهر ألقابه
محمد بن أحمد بن الجنيد.وكنيته: أبو علي، وهو المقصود بها على الإطلاق في كتب الفقهاء.
نعم، قد تطلق عندهم في ‏موارد قلة على ولد الشيخ الطوسي ولكن مع الإضافة، فيقال أبو علي ولد الشيخ. وأما ألقابه التي اشتهر وذاع صيته بها في كتب الفقهاء والرجاليين فهي ابن الجنيد والكاتب والإسكافي نسبة إلى اسكاف ناحية ببغداد صوب النهروانات وينتسب إليها جماعة من العلماء.
ولقب بالكاتب لمهارته كما قيل في حسن الإملاء وفن الإنشاء، حيث أن الاصطلاح قد استقر منذ القدم على التعبير عن صاحب هذه الصناعة بهذه اللفظة.
ومما يشير لصحة هذا الاستظهار ويعضده أنه كتب كتابًا في هذا الفن أسماه علم النجابة في علم الكتابة. وأما تلقبه بـابن الجنيد فهي نسبة إلى جده الأعلى الجنيد كما سنوضحه عند الحديث عن أسرته، ولعله أشهر ألقابه وأعرفها.
وقد يشترك معه فيه جماعة سنشير إليهم لاحقا. هذا، وربما يسمى أيضاً بـ(الجنيدي) كما في رسالة الشيخ المفيد المسماة (رسالة الجنيدي إلى أهل مصر)، وكذا في مسائله الصاغانية، حيث عبر عنه المفيد والشيخ الحنفي النيسابوري بالجنيدي في عدة مواضع منها. والذي يبدو انحصار هذه التسمية به في أيام عصره حسب، إذ لم يعهد التعبير عنه بذلك في معاجم الرجال ومصادر الفقه.


بيئته وعصره
توطن ببغداد، وشارك في التكوين الأول للمدرسة البغدادية الكبرى في القرن الرابع الهجري، فكان في الطليعة من الفقهاء الذين أسهموا في صياغة وتأسيس الإطار العلمي للمذهب وحفظ هويته واستقلاله في بيئة تجانست فيها المذاهب وتنوعت فيها المشارب في شتى الاتجاهات الفكرية والكلامية والفقهية والحديثية، فضلًا عن الأوضاع السياسية التي سعت إلى هضم الكيان الشيعي والانقضاض على أئمته ومن يتصل بهم من العلماء والنواب والسفراء في أخريات العهد العباسي.
هذا، وقد عرف لابن الجنيد مكانته ومشاركته في علوم شتى، وفنون عديدة، فكان الفقيه المحدث، والأصولي المتكلم، وقد جمع إلى ذلك اطلاعه في الأدب واللغة والفهرسة والكتابة ... فلننطلق مع لمحات فردية ولمعات علمية عن حياة هذا الفقيه ومكونات شخصيته.
مضت الإشارة إلى أنه بغدادي البيئة والنشاة. ولم ينقل في أحواله إعراضه وخروجه منها، إلا ما نقل من سفره إلى نيسابور سنة (340هـ) .
ومما يعزز وجوده ببغداد وتوطنه فيها شهادة تلميذه الشيخ المفيد الذي أكد وجوده فيها وحلوله في جواره وعودته إليها بعد سفره لنيسابور. وبعد هذا التصريح من الشيخ المفيد بحلوله ووجوده في بغداد، فلا نجد محملاً لما ذكره بعض أعاظم أهل الفن من التشكيك في وجوده وسكناه في بغداد من دون استناد لدليل معترضًا على ما ذكره العلامة المامقاني الذي صرح بسكناه في بغداد وإن لم يستدل لذلك بشي‏ء ومثله ما أوردته بعض مصادر ترجمته من أنه من أهل الري.على إن جملة مشايخه والرواة عنه كانوا ببغداد أيضًا، كالشيخ المفيد وابن الغضائري وابن عبدون (ابن الحاشر) والعاصمي والشلمغاني وغيرهم.

وقد كانت بغداد آنذاك وهي ثقل العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة تشهد احتداماً سياسياً وعلمياً ومذهبياً حاداً انعكست تفاصيله على مجمل الحياة البغدادية بشكل خاص، وعلى العالم الإسلامي بشكل عام، حيث ضعفت الدولة العباسية وتشتت أمرها، وتسلط أمراء الأقاليم على أقاليمهم، بل لم تسلم بغداد عاصمة الخلافة من نفوذهم وقبضتهم بعد انتقال القدرة (الحقيقية) فيها إلى بني بويه إثر قدوم معز الدولة البويهي لبغداد وعزله المستكفي الخليفة العباسي، وتنصيب ابن المقتدر المطيع للّه محله شكلياً.
ولاريب أن تغير اتجاه الولاء في السلطة إلى العلويين عن طريق بني بويه حرك الولاءات القديمة لبني العباس من قبل مؤيديهم...
ومما زاد الوضع وخامة وأدى إلى تفاقم الحال فيه، نشوب الحرب الداخلية بين أمراء أطراف الممالك الإسلامية كأمراء بني حمدان في الموصل والبريديين وبني بويه.
وقد تأثر البعد المذهبي والعلمي للمجتمع البغدادي بهذه الأوضاع، حيث بدأت الخصومات والانقسامات المذهبية تدب فيه، إثر إعلان بني بويه  الاحتفاء بيوم الغدير، مما جر الأمر إلى وقوع الخصومات وربما الفتن والقلاقل بين شطري البيئة البغدادية، الشيعة والسنة.

ولم تكن الأجواء العلمية بمنأى عن تاثيرات الوضع العام، فقد توسعت ‏حلقات الدرس والبحث والمناظرة، ونشطت أندية العلم ودبت فيها الحياة بشكل ملحوظ، كما أنه طرحت في الساحة العلمية أشد المسائل حساسية في الفقه والكلام والتفسير والحديث، وقام كل فريق برسم الأطر العلمية لمذهبه وتحصينها من الشبهات.
وكثر التصنيف في تلك الآونة، بل إنها كانت بداية التصنيف العلمي المبتني على مراعاة الأصول والقواعد العلمية.


تصنيفاته
وقد كان لابن الجنيد وهو ابن تلك البيئة المترعرع في أكنافها حظًّا عظيمًا في عالم التصنيف والبحث كما أنه كان يتمتع فيها بالمكانة والوجاهة كما تصفه عبارة النجاشي لا في أوساط مجتمعه فحسب بل ولدى أمراء عصره كمعز الدولة البويهي(المتوفى 356هـ) وزير الخليفة العباسي الطائع، وسبكتكين الغزنوي مؤسس الدولة الغزنوية في (غزنة)، فكانت بينهما وبين ابن الجنيد مراسلات سأله فيها عن جملة مسائل عرفت بجوابات معز الدولة وجوابات سبكتكين العجمي، ولم تنحصر شهرته ومرجعيته العلمية ببغداد فحسب، بل سرت إلى بلاد المشرق ومصر وكانت تصله منها بعض الأموال.


أسرته
أسرة بنو الجنيد من الأسر العريقة التي تتميز بالشرف والوجاهة في مجتمعها بمدينة (الإسكاف) . وتنحدر هذه الأسرة من الجد الأعلى لها وهو (الجنيد) الذي يرجع عصره إلى عهد كسرى.
فهو الذي بنى الشاذروان في أيام كسرى، ولذا فقد كان لبني الجنيد موضع الصدارة والتقدم في مدينتهم، حتى أنه قد اقترنت تسميتها وعرفت بهم، فيقال (اسكاف بني الجنيد). و لما ملك المسلمون العراق أقرهم الخليفة الثاني على تقدم المواضع فيها.
قال الحموي فيها:اسكاف:بالكسر ثم السكون... : اسكاف بني الجنيد كانوا رؤساء هذه الناحية، وكان فيهم كرم ونباهة فعرف الموضع بهم، وهو اسكاف العليا من نواحي النهروان بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي وهناك اسكاف السفلى بالنهروان أيضًا.
خرج منها طائفة كثيرة من أعيان العلماء والكتاب والعمال والمحدثين لم يتميزوا لنا. وهاتان الناحيتان الآن خراب بخراب النهروان منذ أيام الملوك السلجوقيين.
وقد نص الفيروزآبادي والسمعاني على انتساب جماعة من العلماء لها، ذكر الثاني طائفة منهم في كتابه، وهم من العامة، ويوجد فيها من الشيعة أيضًا كمحمد بن همام وغيره.


توثيقه وآراء العلماء فيه
وثقه النجاشي فقال: وجه في أصحابنا، ثقة، جليل القدر. وقال الشيخ الطوسي: كان جيد التصنيف حسنه، إلا أنه كان يرى القول بالقياس فتركت لذلك كتبه ولم يعول عليها.
وأثنى عليه العلامة الحلي بقوله: شيخ الإمامية جيد التصنيف حسنه، وجه في أصحابنا، ثقة، جليل القدر، صنف فأكثر.
وقد سبق العلامة(رحمه ‏اللّه) في ذلك شيخه المحقق (رحمه اللّه) فإنه أكثر النقل عن ابن الجنيد ، وعده في مقدمات(المعتبر) ممن اختار النقل عنهم من الأفاضل المعروفين بفقه الإخبار وصحة الاختيار وجودة الاعتبار من أصحاب كتب الفتاوى.
ووصفه ابن النديم:من أكابر الشيعة الإمامية.ووصفه الزركلي: فاضل إمامي.
وذكره كحالة: شيعي، إمامي، فقيه، أصولي، مشارك في علوم.
ووصفه اسماعيل باشا البغدادي: أنه من أكابر الإمامية. وأطراه ابن ادريس الحلي فقال: وهذا الرجل جليل القدر كبير المنزلة صنف فأكثر. ونعته أيضاً عند بحثه في مسائل الربا من السرائر فقال: من أجلة أصحابنا المتقدمين ورؤساء مشايخنا المصنفين. ثم قال: وأبو علي بن الجنيد من كبار فقهاء أصحابنا ذكر المسالة وحققها وأوضحها في كتابه: (الأحمدي في الفقه المحمدي).
وعده الشهيد الأول في الذكرى من أعاظم العلماء واعتبر مراسيله لوثاقته.
ووصفه الشهيد الثاني في المسالك بأنه: عزيز المثل في المتقدمين بالتحقيق والتدقيق، يعرف ذلك من اطلع على كلامه.
وقال السيد بحر العلوم في شأنه: من أعيان الطائفة وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الإمامية وأكثرهم علماً وفقهاً وادباً وتصنيفاً، وأحسنهم تحريرًا وأدقهم نظرًا.
متكلم فقيه محدث أديب واسع العلم صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب والكتابة وغيرها... وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة والرياسة وعظم محله قد حكي عنه القول بالقياس.
وعده العلامة الكاظمي في الثقات فقال عنه: ابن الجنيد الثقة شيخ الإمامية وكبيرهم. وقال عنه السيد حسن الصدر: شيخنا الأقدم وفقيهنا الأعظم.
ووصفه القمي بأنه: من أكابر علماء الشيعة الإمامية، جيد التصنيف وقال المدرس التبريزي: شيخ أجل أقدم ثقة فقيه أصولي أديب متكلم محدث واسع العلم جليل القدر.
وقال المامقاني: لم يتوقف أحد في توثيقه إلا ولد صاحب المعالم. ومما يدل على منزلته ووثاقته أنه من مشايخ الإجازة التي هي في أعلى درجات الجلالة والوثاقة، وممن روى عنه الأجلاء كالمفيد والتلعكبري.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة