مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

العقل بين الاعتقاد والإيمان

لا يمكن أن يتم الإيمان بدون عقل، فالعقائد ليست تعبدية بل تحرز عقليًّا، فلو لم أثبت وجود جهة قادرة، وقدرتها تفوق قدرة البشر بالأدلة العقلية، لن أستطيع بالتالي أن أُسَلّم وأتعبد بالأحكام التي لم يصل العقل الى إدراك مقاصدها، لأن عدم الإدراك لا يعني عدم القدرة عليها، بل يعني أنه لم يستطع العقل الإنساني إلى اليوم، وفق تراكمه المعرفي الوصول واقعًا، إلى إدراك ذلك، كون المقدمات لإدراكه لم تتوفر لديه، أو لم يصل إليها وفق تراكمه المعرفي.

والإيمان ليس سابقًا على العقل، بل هو خطوة لاحقة، لأن التفكّر عمل عقلي، فإدراك المبدأ والنبوة والمعاد عقلي، وهي مقدمات ضرورية عقلية، ليحصل الإذعان القلبي أو الإيمان. فالإيمان هو التصديق، والتصديق مقدماته عقلية، والإيمان له متعلّقات هي العقل والتجربة،كون الإيمان يزداد وينقص، فبالتالي نقصانه وازدياده متعلق بالعقل والتجربة، التي تنعكس على الحالة المعنوية للإنسان.

 

لذلك حينما أُدرك عقلًا بوجود الخالق، وأن هذا الخالق قادر وهو المنشأ، في تلك اللحظة سأبحث عمّا يقرّبني، وحتى النبوة فإنّ إثباتها عقلي، لأنني لا يمكن أن أذعن لما جاء به هذا النبيّ، إلا إذا ثبتت لديّ نبوته بالدليل العقلي القطعي الذي يكسب اطمئنانًا قلبيًّا..

فحينما أعتقد عقلًا بوجود خال،ق فإن عقلي سيطرح تساؤلًا حول كيفية الوصول إلى هذا الخالق، وكيف خلقني ولم يوضح لي معالم الطريق؟ هنا وفق قاعدة اللطف العقلية، يصير البحث عن ضرورة وجود مرشد ودليل.

أما التفاصيل مثلًا في كيفية الصلاة والوضوء، فهي مرتبة لاحقة على إدراك النبوة عقلًا. فإدراك يتبعه تصديق وإيمان وفق منهج سليم في الاستدلال، سيقود حتمًا إلى التسليم والاتباع. فإدراك الأصول عقلي، والتسليم بالفروع يتبع هذا الإدراك.. وما هو منتشر بين الناس، وحتى عند كثير من العلماء من منهج، يشوبه خلل كثير.

 

أما قضية تقسيم الناس وفق إيمانهم، فهذه ليست مسألة تخص البشر، كون النبي بذاته أُمِر أن يتعامل بالظاهر، والإيمان مسألة قلبية، وإدراكاتها عقلية، إذًا هي عملية باطنية. فمثلًا إذا لم يتوصل الإنسان إلى نتيجة بعد أن بذل جهدًا عقليًّا في إثبات قضية عقائدية ما، فهذا يفترض أن لا يعطي لأحد الحق في تصنيفه، لأنه بذل جهدًا عقليًّا في قضية عقائدية، لم يجد لها وفق بحثه برهانًا، وبالتالي فهو أمر مسؤول عنه وليس عن غيره، ولا يحق لأحد تصنيفه أو ممارسة دور الله معه .نعم هناك أمور قد يسلم بها الإنسان من باب السلامة وليس التسليم …فإن أصابت، كان في موقع السلامة، وإن لم تصب لم يخسر شيئًا، وهذه قاعدة عقلية أيضًا، وهي درء المفسدة وجلب المصلحة والحسن والقبح العقليين.

أما مسألة الانضباط السلوكي بما يحقق الأمن والاستقرار الاجتماعي وقيم كالعدالة والحرية والكرامة، فكلها مدركات عقلية، متاحة لكلّ البشر عملية أدراكها بالعقل، لتبعيّتها كقيم، لقاعدة القبح والحسن العقليين. وهناك أمور نسلم بها حبًّا للخالق، كوننا أدركنا وجوده عقلًا، وأذعنت قلوبنا له، فاتباع بعض الأمور كمسلّمات في حال عدم قدرة العقل على إدراكها، يكون نابعًا من الحب، وعبودية الطاعة والحب لمن نحب، فالمحور هنا الحب، وليس الإكراه والجبر البيئي أو الاجتماعي أو التراثي.

 

المشكلة أنني لاحظت الخلط الحقيقي بين منهج كثير من العلماء وممارساتهم، وممارسات الناس وبين واقع الأمر. فالتدين والتقرب والقربى والعقيدة، إن لم تكن مقدماتها محرزة عقليًّا، فلا يمكن أن تؤتي أكلها، خاصة عند الهزات والشبهات، وفي عصرنا ما أكثرها ..نعم المعجزات كانت موجودة في عصر النبوة، وهي لذلك العصر، وإلا كيف تكون معجزة بغير رؤيتها؟! فهي خاصة بأهل زمانها، ووفق حيثيات وظروف زمانية ومكانية وموضوعية مختلفة.. وهذا يحتاج شرحًا وتدقيقًا..

بُعدنا عن عصر التشريع، يجعل منظار الأمور وطريقتها مختلفة تمامًا من حيث الحجية والدليل، فمن عاصر الأنبياء تكون الحجية عليه مختلفة عنها عن الحجية علينا في عصرنا ..أولئك مصادر إيمانهم حسية وعقلية وشهودية، كونهم رؤوا بأعينهم وأدركت عقولهم واطلعت قلوبهم، فهل تعتقد أنه من العدل أن تكون هذه بتلك عند الله؟

 

لا يوجد في الاسلام إرهاب، وما يمارس اليوم من إرهاب هو صنيعة البشر سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى الأفكار.. أما ما أفهمه من سلوك النبي (ص) مع نصارى نجران، فهو الرضا حتى بالمناظرات مع المختلف عقائديًّا، فرغم قوة نفوذ النبي وسلطته المادية والمعنوية آنذاك، إلا أنه لم يلجأ إليها، بل لجأ إلى المباهلة والمناظرة والمحاورة في الشأن العقائدي، كون المسألة تتعلق بإدراك العقل وضرورة الإدراك العقلي فيها، لما سيستتبعه من إذعان قلبي وإيمان راسخ وسلوك جوارحي مطابق لإرادة الخالق، وأيضًا كان هذا سلوك الأئمة حتى مع الملحدين.

لذلك لا قداسة للمعرفة البشرية، ولا للمناهج المتبعة للتعرف على العقيدة في عصرنا، بل للعقل حق في أن يبحث ولكن ليس بسفسطائية جدلية.. وإنما بشك إيجابي يدفع العاقل نحو البحث عن الحقيقة وفق منهجيات موضوعية علمية، لا تغيّب أيًّا من مصادر المعرفة البشرية، وفق الأسس المنطقية للاستقراء وقانون الاحتمال.. كالتجربة والوحي، وهما الأكثر جدلًا في مصادر المعرفة، كون الجميع متفقًا على الحس والعقل نظريًّا وعمليًّا، إلا أن التجربة والوحي حالة جدليّة بين من يؤمن نظريًّا دون التطبيق العملي كالتجربة، ومن لا يؤمن بها كمصدر معرفي كالوحي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد