قرآنيات

الخوف في القرآن(٢)

 

العلامة السيد حسين إسماعيل الصدر ..

الخوف عمل لا إحساس:

ليس خوف العبد المطلوب هنا هو ما يستشعره القلب من الرعب كما في حال رؤية الأسد، بل المطلوب الكف عن المعاصي ولزوم الطاعات لذا لا يُعَد خائفاً مَن لم يكن للذنوب تاركاً.

كما أن الخوف من الله عز وجل لا يتمثل بشكل خارجي من صيحة وبكاء، بل يتمثل بترك ما يخاف أن يُعاقَب عليه.

سئل أحد العلماء: متى يكون العبد خائفاً؟

فقال: إذا نزّل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام.

 

الخوف الصادق:

يبذل الصادق في خوفه غاية جهده في التحرر من المعصية والابتعاد عن المحرمات وتجنب الشبهات والقيام بالطاعات والقربات، ومع ذلك يخاف ألا يبلغ بجهده وعمله مرتبة المقبولين الذين قال الله تعالى فيهم: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله سئل عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ.

أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟

قال : لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يُقبَل منه.

وقد قال إحد المفسرين في شأن هؤلاء: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية والمنافق جمع إساءة وأمناً ومهانة.

 

أسباب الخوف:

الأسباب التي تدعو الإنسان إلى استشعار الخوف من الله جلّ جلاله كثيرة،  من الموت قبل التوبة أو عدم قبولها أو نقضها أو خوف قسوة القلب أو السعادة في اتباع الشهوات، أو خوف أن يكله الله إلى نفسه، أو الاستدراج باتصال النعم، أو خوف تبعات الناس بسبب الغيبة والنميمة والبهتان والخيانة والغش، وخوف ما يحدث في بقية عمره ، أو خوف سوء الخاتمة بغلبة أمر من أمور الدنيا على قلبه عند الموت فيستحوذ عليه فلا يبقي متسعاً لغيره، وإذا انصرف وجه الإنسان عن ربه وقع الحجاب، وإذا وقع الحجاب نزل العذاب، يقول تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ.

فعلى المؤمن أن يواصل استشعار الخوف من الله والوجل لذكره والخشية من عقابه، وليتذكر دائماً قول ربه عز من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ .

ويقول جل حلاله: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .

وليذكر المؤمن المتحلي بفضيلة الخوف من ربه، أن سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وآله، كان أشد المؤمنين خوفاً من الله وهو المعصوم من كل ذنب، وهو القائل: شيبتني سورة هود وأخواتها سورة الواقعة وسورة إذا الشمس كورت وعم يتساءلون.

لأن في سورة هود قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ .

وفي سورة الواقعة قوله تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ - لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ - خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ .

ولأن في سورة التكوير تصوير أهوال يوم القيامة مثل قوله تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ - وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ.

ولأن في سورة النبأ قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا.

وقوله عز من قائل: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا.

ولهذا مما لا شك فيه ولا ريب أن يقظة الخوف في نفس المؤمن تثمر عنده تجنباً للشهوات وابتعاداً عن الآثام، ولذا قيل: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.

وقيل: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.

 

مرادفات الخوف:

لكلمة خوف جملة إلفاظ إن لم تكن مرادفة فهي مقاربة منها:

الخشية: وتفترق عن الخوف بأنه هرب من المكروه عند استشعاره وهو لعامة المؤمنين، والخشية أخص فهي للعلماء كما في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .

فصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالله ،وعلى قدر العلم تكون الخشية، ولذلك قال سيد الكونين الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: إني لأعلمكم بالله وأشدكم خشية.

وقد فرّق علماء الأخلاق بين الخوف والخشية، بأن الخوف سببه ذل الخاشي، والخشية سببها عظمة الله .

ويقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان : والظاهر أن الفرق بين الخشية والخوف أن الخشية تأثر القلب من إقبال الشر، وما في حكمه والخوف هو التأثر عملاً بمعنى الإقدام. على تهيئة ما تبقى به المحذور وإن لم يتأثر القلب، ولذا قال سبحانه في صفة الأنبياء: ولا يخشون أحداً إلا الله.

 

فنفى عنهم الخشية من غيره، وقد أثبت الخوف لهم من غيره في مواضع من كلامه كقوله: فأوجس في نفسه خيفةً موسى .

وقوله : وإما تخافنّ من قوم خيانة.

ولعل إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما، من أن الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم، ولذا خص العلماء بها في قوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.

وقال بعض العلماء:

إن الخشية أشد من الخوف، لأنها مأخوذة من قوله: شجرة خشية أي يابسة.

 وكذا قول بعضهم: إن الخوف ما يتعلق بالمكروه وبمُنزِله، بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمُنزِل دون المكروه.

وأما الوجل: فهر رجفان القلب وانصداعه لذكر مَن يخاف سلطانه وعقوبته.

والهيبة خوف يقارن التعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة، لأن الإجلال تعظيم مقرون بالحب، ولذلك قالوا: الهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين.

وأما الرهبة فهي إمعان في الهروب من المكروه، ولذلك قيل أن الرهب والهرب بينهما تناسب في اللفظ من ناحية الاشتقاق الأكبر، وكل لفظين شملهما هذا الاشتقاق يكون بينهما اشتراك في المعنى العام.

 

الوسطية في الخوف:

الخوف صفة تحتاج إلى التوسط والاعتدال، فليس من الصحيح أن يقل الخوف عند الإنسان حتى يقرب من درجة الغلظة أو الاستخفاف، ولا يجوز أن يسرب فيه صاحبه حتى يقرب من اليأس والقنوط، ويشير إليه قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا.

ويقول تعالى عن بعض أنبيائه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ .

ويقول سبحانه وتعالى عن المستقيم من عباده: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.

فينبغي للخائف ليستقيم على الصراط أن يوازن بين الخوف والرجاء.

مواقيت الصلاة