قرآنيات

غلبت الروم والإعجاز القرآني


الشيخ محمد جواد مغنية ..
قال تعالى : {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم : 2 - 4] .
فيما تقدم ذكرنا وجوها لإعجاز القرآن الكريم ، منها تحدي المنكرين بأن يأتوا بسورة من مثله ، ومنها عقيدته الإلهية، وهدايته إلى بواعث التقدم وأسبابه ، وشريعته الإنسانية التي تفي بحاجات الناس في كل زمان ومكان ، وتقر من الشرائع الوضعية كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات ، مع العلم بأن الذي بلَّغ القرآن لم يختلف إلى معلم ، ومنها أن كلام القرآن يحمل وجوهًا كثيرة دون كلام الناس ، وقد اهتدينا ، ونحن نفسر آياته ، إلى أن السر في ذلك يكمن في عظمة المتكلم وعلمه الذي لا يحد بشيء .
ومن مظاهر إعجاز القرآن إخباره عما لا يطلع عليه إلا علَّام الغيوب ، كالإخبار عما كان يضمره المنافقون في قلوبهم ، وعن انتصار النبي على أعدائه ، وظهور الإسلام على الدين كله ، وعن رجوع النبي إلى مكة منتصرًا بعد إخراجه منها ، وعما يحدثه أصحابه من بعده ، وعن اليهود وطبيعتهم ، وعن انتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين من انتصار الفرس على الروم ، والآيات التي نحن بصددها تشير إلى هذه الحادثة التي أجمع عليها الرواة والمفسرون .
وملخصها أن فارس كانت على دين المجوسية ، لا كتاب لها كالمشركين ، وكانت الروم على دين النصارى ، والنصارى أهل كتاب كالمسلمين ، وفي عهد رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) وقعت الحرب بين فارس والروم بأذرعات وبصرى من أرض الشام ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم في الشرك سواء ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأن الطائفتين من أهل الكتاب ، وجاءت الأخبار بانتصار الفرس على الروم ، فشق ذلك على المسلمين ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين : إن الفرس الذين لا كتاب لهم غلبوا الروم أصحاب الكتاب ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم ، فنحن لا كتاب لنا ، وسنغلبكم كما غلب الفرس الروم ، فنزلت هذه الآيات ، وما مضت تسع سنين حتى أظهر اللَّه الروم على الفرس ، ففرح المسلمون ، وحزن المشركون .
وهنا يكمن سر الإعجاز حيث أخبر القرآن الكريم بشكل قاطع جازم عن استئناف الحرب بين الروم وفارس ، وحدد وقتها في بضع سنين ، وأنها تنتهي بانتصار الروم على فارس ، فكان كما قال . وهذا الغيب المحجوب لا يعلمه إلا اللَّه وحده .
«لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ» قبل النصر وبعده ، وإليه وحده ترجع الأمور « ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ » . يفرح المسلمون يوم تظهر الروم على فارس « يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ » . إذا تقاتل اثنان ينتصر من يملك أسباب النصر على الذي لا يملكها محقا كان أو مبطلًا ، وأسند سبحانه النصر إليه لأن جميع الأسباب الكونية تنتهي إليه تعالى بالنظر إلى أنه خالق الكون وما فيه « وهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ » ينتقم من الظالم ، ويرحم المظلوم .
« وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » بعد أن أخبر سبحانه عن الغيب المحجوب ، وهو انتصار الروم على فارس أكد بأن ذلك واقع لا محالة ، ولكن من لا يؤمن باللَّه كيف يؤمن بوعده ؟ وهذا التأكيد القاطع أصدق شاهد على أن القرآن وحي من الذي يتساوى لديه عالم الغيب والشهادة ، ولو حصل الخلف بالوعد لاتخذ منه أعداء الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ذريعة للطعن بصدقه ورسالته « يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» .
الدنيا وأحوالها من عالم الشهادة ، والآخرة وأهوالها من عالم الغيب .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد