علمٌ وفكر

الدين والإلحاد (2)


حيدر حبّ الله ..
5ـ الملجأ والملتحد بين الرحمة الإلهيّة وصمت الطبيعة الغاضبة
يرى الإيمان الدينيّ أنّنا عندما نطيح بفكرة العقل الغيبيّ الكبير (الله) المتَّصف بالإحساس والعلم والقدرة والحكمة والتدبير والغايات و.. فإنّ هذا معناه أنّنا سنفتقد للنفحة التي سوف توفِّر لنا مفهوم (الرحيم الغفور الودود اللطيف..). إنّ الطبيعية لا تفهم ولا تعي ولا تشعر، بينما الله يعي الأمور ويلمسها، وله غايات. فيمكن في مناخ مقولة (الله) أن يلجأ الإنسان نفسيّاً وروحيّاً إلى نقطةٍ ما في هذا العالم تمثِّل الرحمة والخلاص والأمل؛ لأنّني بمجرّد أنْ أرتفع من عالم الطبيعة الصامت غير العاقل إلى عالم الغيب العاقل أشعر وكأنّني مع إنسانٍ آخر كبير بعقله وروحه وأخلاقه ووَعْيه؛ لأنّ الغايات شأنٌ عقلاني يلمسه الإنسان بتجربته، وعندما أحسّ بالإنسان الكبير الغيبيّ ـ إذا صحّ التعبير ـ فإنّ من الممكن لي أن أشعر بوجود الرحمة والمودّة والرأفة.
ولعلّ في هذا السياق ما يُلمح إليه الفلاسفة الإلهيّون من برهان الفطرة. فالإنسان بفطرته عندما يقع في مَهْلكةٍ وخطر، كما في سفينةٍ مشرفة على الهلاك وسط المحيطات الهائجة، يرتبط بقوّة متعاليةٍ تَسْمع وتَعي وترى، ولها إحساس الرحمة والعفو والمحبّة، فينشدّ إليها؛ كي تقوم بخلاصه. إنّه هنا لا ينشدّ ـ كما يقول الفلاسفة ـ إلى الاحتمال الضعيف في النجاة، بل ينشد إلى قوّة ما فوق عاديّة، وما فوق عالَم الاحتمالات، يمكنها أن تتدخّل لإنقاذه، لماذا؟ لأنّها تسمع الدعاء والنداء، وتعفو وتصفح وترحم، فيتوقّع النجاة، لا لأجل وجود احتمال الواحد في الألف أن يهدأ المحيط الهائج، بل حتّى لو لم يهدأ هو ينشدّ إلى هذه القوّة التي تقدر ـ في ما يحسّه في عمق وجدانه ـ على أن تبتكر طرقها لخلاصه..
الله هو الملجأ والملتحد، والله في الثقافة الدينيّة هو المدعوّ والمناجَى الذي تطلب منه الحاجات، لا من غيره، والتوحيد هو عمق التواصل الصحيح مع هذه القوّة الكبيرة التي نسمّيها (الله).
إنّ الإلحاد قد لا يبالي بكلّ هذه المفاهيم النفسيّة البانية للأمل والخلاص، والمستشعرة دوماً إحساس العناية واللطف والرأفة من قوّةٍ أعلى، وهو إحساسٌ سامٍ من وجهة النظر الدينيّة. إنّ الإلحاد يرى أنّه ليس سوى الوقائع الماديّة التي يجب التعامل معها، لا غير، وعليك أن تبني آمالك وفقاً لهذه الوقائع الحادثة.


6ـ الدين والإلحاد وتبادل اتّهامات التخدير والأفيون
يقول الإلحاد بأنّه حالةٌ صعبة على المِلَل المتديّنة. إنّها تشعر بثقله، ولكنَّها لو فعلته، وشعرَتْ بالوَجَع، فسرعان ما سترتاح؛ لأنّها سترى الأشياء بعده رؤيةً واقعيّةً ومنطقيّة. وسبب وجعها أنّها استأنست بإدمان خرافات الدين، والتحرُّر من التخدير يصاحبه وَجَع وأَلَمٌ عظيمان في البداية فقط.
بينما يقول الدين بأنّ رؤية الإلحاد لنفسه هي بنفسها غير واقعيّة؛ لأنّ صورة العالم عنده مجتزأة ومنقوصة وغير مكتملة، بل صورة الإنسان عنده غير سليمة؛ لأنّ الإنسان مضطرّ ـ سواء كان ذلك حقّاً أم باطلاً ـ إلى إشباع مشاعره الغيبيّة، فأيُّ واقعيّةٍ تتجاهل هذا النزوع الفطري الغيبيّ عند الإنسان هي التي ستخدِّره، لكنْ لمدّةٍ زمنيّة، سرعان ما سيستيقظ بعدها على أَلَمٍ كبير ووَجَعٍ عظيم، يفضي به إلى الشعور بالفردانيّة والوحدة والوحشة والغربة، ثم الانتحار، كما حصل في هذا العصر.
من هنا لا تقتصر تهمة التخدير على الدين، بل يرى الدين أنّ الإلحاد هو الذي يقوم بتخدير الناس ـ بقوّة الشهوات والإعلام والوَهْم ـ، عبر طمسه لبعض نوازعهم الفطريّة لمدّة زمنيّة معيّنة، سرعان ما ستتغير الأمور معه، ويعود الناس إلى هذه النوازع الفطريّة الكامنة في التعلّق بما وراء الطبيعة. فلم يتمكّن الإلحاد رغم كلّ نفوذه في هذا العالم لعدّة قرون أن يطمس الدين، ولن يتمكَّن، وإذا فعل ذلك هنا أو هناك فهي محاولات زمنيّة محدودة، لن تقدر على الاستمرار مهما عاشت غرور النصر للحظات. وما يؤكّد ذلك أنّ النزعات الماديّة والبراغماتيّة في القرن العشرين عادت لتنظر إلى الدين بوصفه واحداً من علاجات الأمراض النفسيّة التي تجتاح العصر الحديث.


7ـ المطلق بين الإنسانيّ والإلهيّ
يرى الدين أنّ المطلق أو شبه المطلق حالةٌ إنسانيّة أيضاً، وليس فقط إلهيّة، لكنْ ضمن حدود الإنسان، وهي تسمّى بالأنبياء والأولياء. ويتمثَّل إطلاقهم في أنّهم القدوة وحلقة الوصل مع الله المطلق الحقيقيّ، وفي أنّهم الأنموذج البشريّ الأفضل الذي تحفره الديانات في العقل الإنسانيّ، دافعةً الوجدان والروح للتماهي معه، وراسمةً بذلك أهدافاً إنسانيّة ممكنة له.
أمّا في الإلحاد فليس هناك سوى مجموعاتٍ من البشر، بلغوا تميُّزاً زمنيّاً وضعهم في مصافّ الممتازين، ليس إلاّ، دون أن يحتكروا الامتياز، أو يكون لهم على غيرهم تقدّمٌ.

ولأنّ هناك مطلقاً أعلى من الإنسان يرى الدين أنّ العقل محدودٌ، وأنّ عليه أن ينصت لصوت الوحي الذي يعبِّر عن العقل اللامحدود، وهو ذاك المطلق المسمّى بالله. ومن هنا يرى الدين أنّه من غير المنطقيّ أن نعترض على الله عندما لا ندرك بعقولنا البسيطة الغايات النبيلة من أفعاله، وكأنَّنا فهمنا كلّ شيء، بأنْ نسأل عن سبب قتله للناس بالزلازل والبراكين وغير ذلك، وسبب إرساله الشرور على هذا العالم. إنّ اعتراضنا مرفوضٌ، ليس لأجل أنّ الدين يقمع الحرّيات، وأنّ الله مستبدٌّ، بل لأنّ منطقيّة الأمور تتطلَّب ذلك؛ فإنّ العقل الإنساني محدودٌ للغاية، وكثيراً ما اعترض ثمّ بعد قرونٍ انكشفت له أسرار الأمور، ولأنّه محدودٌ فيما الله مطلقٌ، لهذا كان من المنطقيّ أن يقول، بدل (أرفض هذا السلوك الإلهي)، جملةَ: (لا أفهمه بالتفصيل)، وعقلي محدودٌ لا يدركه.
بينما يرى الإلحاد أنّ هذا الكلام ليس سوى ضَرْباً من القول، فليس عندنا سوى عقولنا المحدودة، وعلينا أن نتّكئ عليها لوحدها ما دامت هي العنصر المتوفِّر الوحيد لنا لإدارة أمورنا، وكلُّ كلامٍ آخر فهو مجرّد تخريجاتٍ كلاميّة، وألعابٍ لفظيّة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد