علمٌ وفكر

المعرفة الحقّة لله عزوجل


الشيخ جوادي آملي ..
إنّ القرآن الكريم يرى أنّ ذات الله سبحانه غنيٌّ عن الإثبات كما أنّه غنـيٌّ بذاته فـي الثبوت، ويراه أجلّ مَن أن يُبحَثَ عنه بأنّه ما هو وأنّه هل هو وأنّه لِمَ هو وأنّه كيف هو وسائر الأسئلة والأجوبة حول ذاته سبحانه، ويراه أعلى وأنبَل وأعظم من أن يُبحَث عن بقائه بعد فناء كلّ شيء وعن حياته بعد موت ما عداه وعن ثباته بعد زوال ما سواه.
وبالجملة ليس فـي القرآن الحكيم قضيّة موضوعها ذات الله ومحمولها وصف من أوصافه الذاتية، بل جميع مسائله يحوم حوم أسمائه الحسنى وصفاته العليا. نعم يعبّر عن ذاته بمفهوم يحكيه لا بماهية تكشفه، فالذات مصداق للمفهوم من دون أن يكون فرداً لماهيّةٍ أصلاً، لنزاهته عنها وسيتّضح ـ إن ‌شاء الله ـ أنّه لا مَيْز بين الحكيم الذي يجول حول البرهان والعارف الذي يحوم حوم الوجدان ويهيم هيمان الوالهين فـي معرفة الهويّة البحتة أي الذات، إذ كلّ واحد منهما يعرفه بالمفهوم لا بالشهود وليس للعارف أن يشهده أصلاً كما ليس فـي وسع الحكيم ذلك، لأنّ شهودَ الذات البَحْتِ ممتنعٌ بالضرورة وكذا اكتناه الصفات الذاتية التـي هي عين الذات مستحيل كذلك. فالفرق بين ذينك الموحّدين إنّما هو فـي فهم الأسماء الحسنى وإدراكها حصولًا، وفـي شهودها وحضورها عيناً، والأوّل للحكيم والثانـي للعارف.
والسرّ فـي ذلك كلّه هو أنّ الذات الإلهية وجود بَحتٌ بسيطٌ لا حدّ له أصلاً ومنزّه عن أيّ تركيبٍ كالتركّب من الماهيّة والوجود ومن المادة والصورة ومن الجنس والفصل ومن الجوهر والعرض ومن الجزئين المتساويين المتشاركين كالأكسجين والهيدروجين للماء ومن الجزء المقداري كالنصف والثلث للخط ومن الوجود والعدم الذي يُعدّ هذا القسم السابع بالقياس إلى الأقسام الستّة السابقة، شرّ التراكيب لأَوْل كل واحدٍ من تلك الستّة إلى وجودية الأجزاء ولو بالتبع أو بالعرض، وأمّا هذا القسم السابع فلا مجال له أصلاً، لأن جزءَه العدمي مبائن للوجود رأساً فلا يَؤول إليه أصلاً؛ مثلاً إنّ الألف لكونه محدوداً فهو عند التحليل الدقيق الذي لا يناله العرف بخياله بل ولا بعقله غير المتدرّب، مؤلّف من حيثيّتين الأولىٰ كونه ألِفا أي واجداً لهويّته والثانية كونه ليس بالباء ولا بالجيم ولا بالدالّ ونحو ذلك، ومن البيّن لدى العقل الصراح المائز بين الحيثيّات أنّ حيثيّة وجدان هويّة الألف، ليست بعينها عين حيثيته فقدان الباء ولا فقدان الجيم ولا فقدان الدال ونحوها وإلاّ لصارت حيثيّة الوجدان عين حيثيّة الفقدان أي صار الوجود عين العدم وهو جمع النقيضين فعليه يكون الألف عند التحليل مؤلّفاً من الحيثيّتين الأولىٰ وجوديّة والثانية عدمية وهذا التألّف هو شرّ أنواع التركّب.
فكل محدود فهو مركب وما ليس بمركبٍ أصلاً فهو منزّه عن الحد فيكون بسيطاً لا حدّ له ـ وتفصيله فـي موطنه عند أهله ـ وكل موجود بسيطٍ لا حدّ له لا يمكن أن يشاهد إلاّ لنفسه لأنّ غيره محدود لا محالة ولا يمكن أن يدرك بعضَه، إذ لا بعض له، ولا كلَّه وتمامه، إذ لا يمكن إحاطة المحدود بما لا حدّ له. وما يقال إنّ كلّ واحدٍ من المخلوقين ينال خالقه بقدره، فكلام إقناعي لا برهانـي، نعم كل واحدٍ ممّن يتيسر له البرهان الحصولـي، يُدرِك المفاهيم الكليّة المشيرة إلى ما لها من المصداق، سواء فـي ذلك الحكيم والعارف والميز بينهما هو أنّ الحكيم يدرك وجه الله وفيضه المنبسط بالمفهوم الحصولـي والعارف يناله بقدر وجوده بالشهود الحضوري.
والغرض أنّ القرآن الحكيم لا يبحث عن الهويّة البحتة أصلاً، وفـي جميع الموارد التـي يبحث فيها عن فناء كل شيء وهلاكه لا يُستثنىٰ فيها إلاّ وجه الله أي ظهوره وفيضه العام المطلق الذي لا تعيّن له أصلاً من دون أن يُستثنىٰ فيها ذات الله وهويّته البسيطة المحض، لكونه أجلّ مِن أن يُتوهَّم تَطَرُّق البحث إليه. ولئن قَرَعَ سمعك من بعض أصحاب العلم الشهودي أنّ كلّ واحدٍ من الموحّدين يشاهد الله بقدر وجوده فإنّما تَبْيينُه بأنّ الله سبحانه قد أوجَد ما سواه مرايا ومرائي أي يكون كلّ واحدٍ ممّا عداه تعالى مِرآةً يتجلّى الله فيه بما يسعه؛ فالله فـي مقام التجلّي والظهور يتجلّى ويظهر لكلّ شيء بتمامه وجميع أسمائه الحسنى، ولكن كلّ واحد ممّا سواه يَقبَل التجلّي والظهور بحسبه، فالتعيّن والتحدّد والتضيّق إنّما هو للمرايا المتعيّنة المحدودة المتضيّقة، فمِن هنا يصحّ دعوىٰ أنّ كل واحد من المخلوقين يعرف الله سبحانه بقدر وجوده. والإنسان بحسب فطرته الملهَمَة يشاهِدُ مُلهِمَها فـي التجلّي والظهور بقدر طهارة فطرته ونزاهة روحه المنفوخ مِن الله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد