من التاريخ

حديث الإمام علي (عليه السلام) مع قاتله


الشيخ عباس القمي ..
عندما جيء بابن ملجم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له الحسن (عليه السلام) : هذا عدوّ اللّه وعدوّك ابن ملجم قد أمكننا اللّه منه وقد حضر بين يديك.
ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وقال له بضعف وانكسار صوت: يا هذا لقد جئت عظيمًا وارتكبت أمرًا عظيمًا وخطبًا جسيمًا، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقًا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في إعطائك؟ ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخلّيت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم أنّك قاتلي لا محالة؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من اللّه تعالى عليك يا لكع، وعلّ أن ترجع عن غيّك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقيّ الأشقياء.
فدمعت عينا ابن ملجم لعنه اللّه تعالى وقال : يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار؟.
قال له : صدقت، ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له : ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه وقلبه يرجف خوفًا ورعبًا وفزعًا.
فقال له الحسن (عليه السلام): يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق فيه؟.
فقال له : نعم يا بني! نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب‏ إلينا الّا كرمًا وعفوًا، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقّي عليك أطعمه يا بنيّ مما تأكله، واسقه مما تشرب، فإن أنا متّ فاقتص منه ولا تحرقه بالنار، ولا تمثل بالرجل، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول : «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».
وإن أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلّا عفوًا وكرمًا.
ثم حملوه (عليه السلام) إلى البيت وهو في غاية الضعف والناس حوله في البكاء والنحيب وقد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء، وأخذ ابن ملجم فأوثّق وحبس في البيت.
ثم التفت إلى الحسين (عليه السلام)‏ وهو يبكي فقال له:
يا أبتاه من لنا بعدك؟ لا كيومك إلّا يوم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من أجلك تعلمت البكاء، يعزّ واللّه عليّ أن أراك هكذا، فناده (عليه السلام) فقال : يا حسين يا أبا عبد اللّه ادن منّي، فدنا منه وقد قرحت أجفان عينيه من البكاء، فمسح الدموع من عينيه، ووضع يده على قلبه وقال له:
«يا بني ربط اللّه قلبك بالصبر وأجزل لك ولإخوتك عظيم الأجر، فسكّن روعتك وهدأ من بكائك، فإنّ اللّه قد آجرك على عظيم مصابك» ثم أدخل (عليه السلام) إلى حجرته وجلس في‏ محرابه.
ثم أقبلت زينب وأم كلثوم حتى جلستا على الفراش، وأقبلتا تندبانه وتقولان : «يا أبتاه من للصغير حتى يكبر؟ ومن للكبير بين الملاء؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا ترقأ».
فضجّ الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وفاضت دموع أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ذلك، وجعل يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته وأولاده ثم دعا الحسن والحسين (عليهما السّلام) وجعل يحضنهما ويقبلهما.
وروى الشيخ المفيد والطوسي عن أصبغ بن نباتة قال : لما ضرب ابن ملجم لعنه اللّه أمير المؤمنين (عليه السلام) غدونا عليه نفر من أصحابنا، أنا والحارث وسويد بن غفلة وجماعة معنا فقعدنا على الباب فسمعنا البكاء فبكينا فخرج إلينا الحسن بن عليّ (عليه السلام) فقال: «يقول لكم أمير المؤمنين انصرفوا إلى منازلكم».
فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت وخرج الحسن (عليه السلام) وقال: «ألم أقل لكم انصرفوا؟».
فقلت : لا واللّه يا ابن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال: فبكيت، فدخل ولم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل، فدخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف واصفر وجهه ما أدري وجهه أصفر أو العمامة فأكببت عليه فقبلته وبكيت، فقال لي : «لا تبك يا أصبغ فإنّها واللّه الجنّة».
فقلت له : جعلت فداك إنّي أعلم واللّه أنّك تصير إلى الجنّة، وإنمّا أبكي لفقداني إياك وأغمي على أمير المؤمنين (عليه السلام) ساعة، وكذلك كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يغمى عليه ساعة طويلة ويفيق أخرى، لأنّه (صلى الله عليه وآله)كان مسمومًا، فلمّا أفاق ناوله الحسن (عليه السلام) قعبًا من لبن فشرب منه قليلًا ثم نحّاه عن فيه وقال: «احملوه إلى أسيركم».
ثم وصّى الحسن (عليه السلام) كرّة أخرى بمطعمه ومشربه‏ .
وروى الشيخ المفيد وغيره أنّه : لما أتوا بابن ملجم إلى السجن قالت له أم كلثوم: يا عدو اللّه قتلت أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال : إنما قتلت أباك.
قالت : يا عدو اللّه إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس.
 قال لها : فأراك إنما تبكين عليّ إذا، لقد واللّه ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتم‏.

قال أبو الفرج : «لمّا ضرب عليًّا جمع له أطباء الكوفة فلم يكن أعلم بجرحه من أثير بن عمرو، فلمّا نظر إلى جرح أمير المؤمنين (عليه السلام) دعا برئة شاة حارّة واستخرج عرقًا منها فأدخله في الجرح ثم استخرجه فإذا عليه بياض الدماغ فقال له: يا أمير المؤمنين أعهد عهدك فإنّ عدوّ اللّه قد وصلت ضربته إلى أمّ رأسك‏.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد