قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

خصائص المنافقين في القرآن الكريم


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..

يقول تعالى: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين (8) يخدعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)﴾1.
هذه الآيات تبين - باختصار وعمق - الخصائص الروحية للمنافقين وأعمالهم. الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة. هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغلت في أعماق المسلمين، وشكلت خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعباً لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بين بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حية لمعرفتهم.
الآيات المذكورة قبلها بينت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء يخادعون الله والذين آمنوا بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبددون بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلا الخسران والعذاب الإلهي. وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
في الآية التالية يبين القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأن الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه. وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلة إضافية. إنه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية: في قلوبهم مرض. وبما أن سنة الله في الكون اقتضت أن يتيسر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق.
وبعبارة أخرى: إن تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين، تدفعه نحو الانغماس والثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: فزادهم الله مرضاً. وبما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبررون به ما في حياته من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون.
ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر:
أولاً أنهم يتشدقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، قالوا: إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. ذكرنا سابقاً أن الإنسان، لو تمادى في الغي والضلال، يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزء من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.
علامتهم الأخرى: اعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟!!. وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الانصياع للحق واتباع الدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقلاً ودراية!! غير أن الحقيقة عكس ما يرون: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطًّا معيناً، ويبقى يتلون بألوان مختلفة؟! أليس من السفاهة أن يضيع الإنسان وحدة شخصيته، ويتجه نحو ازدواجية الشخصية وتعدد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!
العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلونهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزءون! يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري، هدفه الاستهزاء. وبلهجة قوية حاسمة يرد القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون2. الآية الأخيرة توضح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضالة: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.


1- سورة البقرة.
2- يعمهون، من " العمة " أي التردد في الأمر، وأيضا بمعنى عمي القلب والبصيرة بسبب التحير (راجع: مفردات الراغب، وتفسير المنار، وقاموس اللغة).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد