قرآنيات

حقائق المجتمع (1)


السيد محمد باقر الصدر ..

الحقيقة الأولى: الاطّراد
بمعنى أن السنّة التاريخيّة مطّردةٌ، ليست علاقةً عشوائيّةً، وليست رابطةً قائمةً على أساس الصدفة والاتفاق، وإنّما هي علاقةٌ ذات طابعٍ موضوعيّ، لا تتخلّف في الحالات الاعتياديّة التي تجري فيها الطبيعة والكون عن السنن العامّة، وكان التأكيد على طابع الاطّراد في السنّة تأكيداً على الطابع العلميّ للقانون التاريخيّ، لأنّ القانون العلميّ أهمّ مميّز يميّزه عن بقية المعادلات والفروض هو الاطّراد والتتابع وعدم التخلّف.
ومن هنا استهدف القرآن الكريم، من خلال التأكيد على طابع الاطّراد في السنّة التاريخيّة، استهدف أن يؤكّد على الطابع العلميّ لهذه السنّة، وأن يخلق في الإنسان المسلم شعوراً واعياً على جريان أحداث التاريخ، متبصّراً لا عشوائيّاً ولا مستسلماً ولا ساذجاً، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾1، ﴿وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾2، ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ﴾3 .  
هذه النصوص القرآنية تؤكّد طابعَ الاستمراريّة والاطّراد، أي طابع الموضوعيّة والعلميّة للسنّة التاريخيّة، وتستنكر أن يكون هناك تفكيرٌ أو طمعٌ لدى جماعةٍ من الجماعات، بأن تكون مستثناة من سنّة التاريخ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾4. هذه الآية تستنكر على من يطمع في أن يكون حالةً استثنائيّةً من سنّة التاريخ.
إذاً الروح العامّة للقرآن تؤكّد على هذه الحقيقة الأولى، وهي حقيقة الاطّراد في السنّة التاريخيّة، الذي يعطيها الطابع العلميّ، من أجل تربية الإنسان على ذهنيّةٍ واعيةٍ علميّةٍ، يتصرّف في إطارها، ومن خلالها، مع أحداث التاريخ.


 الحقيقة الثانية: ربانيّة السنّة التاريخيّة
إنّ السنّة التاريخيّة. ربانيّةٌ مرتبطةٌ بالله سبحانه وتعالى، سنّة الله، كلمات الله على اختلاف التعبير، بمعنى أنّ كلّ قانونٍ من قوانين التاريخ، هو كلمة من الله سبحانه وتعالى، وهو قرارٌ ربانيٌّ. هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانيّة السنّة التاريخيّة وعلى طابعها الغيبيّ، يستهدف شدّ الإنسان ـ حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعيّة للكون ـ بالله سبحانه وتعالى، وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونيّة، والاستفادة من مختلف القوانين والسنن، التي تتحكّم في هذه الساحات، ليس ذلك انعزالاً عن الله سبحانه وتعالى، لأنّ الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثلةٌ لحكمة الله وتدبيره في الكون.


الطابع الغيبيّ للسنن والاتجاه الإلهيّ في تفسير التاريخ
وقد يتوهّم البعض، أنّ هذا الطابع الغيبيّ الذي يُلبسه القرآن الكريم للتاريخ وللسنن التاريخيّة، يُبعد القرآن عن التفسير العلميّ الموضوعيّ للتاريخ، ويجعله يتّجه اتجاه التفسير الإلهيّ للتاريخ، الذي مثّلته مدرسةٌ من مدارس الفكر اللاهوتيّ، على يد عددٍ كبيرٍ من المفكّرين المسيحيّين اللاهوتيّين، حيث فسّروا تفسيراً إلهيّاً قد يخلط هذا الاتجاه القرآنيّ بذلك التفسير الإلهيّ، الذي اتجه إليه أغسطين وغيره من المفكّرين اللاهوتيّين، فيقال بأنّ إسباغ هذا الطابع الغيبيّ على السنّة التاريخيّة يحوّل المسألة إلى مسألةٍ غيبيّةٍ وعقائديّةٍ، ويخرج التاريخ عن إطاره العلميّ الموضوعيّ.
لكن الحقيقة أنّ هناك فرقاً أساسيّاً بين الاتجاه القرآنيّ، وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب، وفي إسباغ الطابع الغيبيّ على السنّة التاريخيّة، وبين ما يسمّى بالتفسير الإلهيّ للتاريخ الذي تبنّاه اللاهوت. هناك فرقٌ كبيرٌ بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين.


 الفرق بين الاتجاهين
وحاصل هذا الفرق هو أنّ الاتجاه اللاهوتيّ للتفسير الإلهيّ للتاريخ يتناول الحادثة نفسها، ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى، قاطعاً صلتها وروابطها مع بقيّة الحوادث، فهو يطرح الصلة مع الله بديلاً عن صلة الحادثة مع بقيّة الحوادث، بديلاً عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخيّة، والتي تمثّل السنن والقوانين الموضوعيّة لهذه الساحة، بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبيّ على الحادثة بالذات، لا ينتزع الحادثة التاريخيّة من سياقها ليربطها مباشرةً بالسماء، لا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديلٍ عن أوجه الانطباق والعلاقات والأسباب والمسبّبات على هذه الساحة التاريخيّة، بل إنّه يربط السنّة التاريخيّة بالله، يربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله، فهو يقرّر أوّلاً ويؤمن بوجود روابط وعلاقاتٍ بين الحوادث التاريخيّة ثانياً، إلّا أنّ هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخيّة، هي في الحقيقة تعبيرٌ عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحسن تقديره وبنائه التكوينيّ للساحة التاريخيّة.


 مثال لتوضيح الفرق بين الاتجاهين
قد يأتي إنسانٌ فيفسّر ظاهرة المطر التي هي ظاهرةٌ طبيعيّةٌ، فيقول بأنّ المطر نزل بإرادة من الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذه الإرادة بديلاً عن الأسباب الطبيعيّة، التي نجم عنها نزول المطر، فكأنّ المطر حادثةٌ لا علاقة لها ولا نِسَب لها، وإنّما حادثةٌ مفردةٌ ترتبط مباشرةً بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيّار الحوادث. هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلميّ لظاهرة المطر. لكن إذا جاء شخصٌ وقال بأنّ الظاهرة، ظاهرة المطر، لها أسبابها وعلاقاتها وإنّها مرتبطةٌ بالدورة الطبيعيّة للماء مثلاً، الماء يتبخّر فيتحوّل إلى غاز، والغاز يتصاعد سحاباً والسحاب يتحوّل بالتدريج إلى سائلٍ نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر، إلّا أنّ هذا التسلسل السببيّ المتقن، هذه العلاقات المتشابكة، بين هذه الظواهر الطبيعيّة، هي تعبيرٌ عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته، فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلميّ، والتفسير الموضوعيّ لظاهرة المطر، لأنّنا ربطنا هنا السنّة بالله سبحانه وتعالى لا الحادثة، مع عزلها عن بقيّة الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثّراتها وأسبابها.
إذاً، القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الربانيّ على السنّة التاريخيّة، لا يريد أن يتّجه اتجاه التفسير الإلهيّ في التاريخ، ولكنّه يريد أن يؤكّد أنّ هذه السنن ليست هي خارجةً، ومن وراء قدرة الله سبحانه وتعالى، وإنّما هي تعبيرٌ وتجسيدٌ وتحقيقٌ لقدرة الله، فهي كلماته وهي سُننه وإرادته وحكمته في الكون، لكي يبقى الإنسان دائماً مشدوداً إلى الله، لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العلم والإيمان، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى هذه السنن نظرةً علميّةً، ينظر أيضاً إليها نظرةً إيمانيّةً.


 الحرص على الطابع الموضوعيّ للسنن
وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعيّ للسنن التاريخيّة، وعدم جعلها مرتبطة بالصدف، إلى حدٍّ جعل نفس العمليّات الغيبيّة مناطة في كثيرٍ من الحالات بالسنّة التاريخيّة نفسها أيضاً، عمليّة الإمداد الإلهيّ بالنصر، هذا الإمداد جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنّة التاريخيّة، مرتبطاً بظروفها، غير منفكٍّ عنها. وهذه الروح أبعد ما تكون عن أن تكون روحاً تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم، وحتى ذاك الإمداد الإلهيّ الذي يساهم بالنصر، ذاك الإمداد أيضاً ربط بالسنّة التاريخيّة.


سنّة الإمداد الإلهيّ الغيبي:
لقد ربطت هذا الإمداد الإلهيّ الغيبيّ بتلك السنّة نفسها أيضاً، ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم﴾5.
هناك إمدادٌ إلهيٌّ غيبيٌّ، ولكنّه شُرِط بسنّة التاريخ، شُرِط بقوله: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾، أجملت الآية هنا شروط التاريخ التي فصّلت في الآيات الأخرى، إذاً هذا الإمداد الغيبيّ أيضاً مرتبطٌ بسنّة التاريخ.
إذاً فمن الواضح أنّ الطابع الربانيّ الذي يسوقه القرآن الكريم، ليس بديلاً عن التفسير الموضوعيّ، وإنّما هو ربطٌ لهذا التفسير الموضوعيّ بالله سبحانه وتعالى، من أجل إكمال اتجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.


1- الأحزاب: من الآية :62.
 2- الإسراء: من الآية : 77.
3-  الأنعام: من الآية : 34.
 4-البقرة:214.
5-  آل عمران:124 و 125 و 126.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد