مقالات

الأنبياء وتهذيب النفس (1)


الإمام الخميني (قده) ..

صناعة الإنسان هدف الأنبياء عليهم السلام
ما من موجود يفتن ويعيث في الأرض فساداً بقدر ما يفعل الإنسان، هذا الحيوان ذو القدمين، وما من حيوان محتاج إلى التربية بقدر ما يحتاج إليها هذا الحيوان ذو القدمين. لقد بُعث جميع الأنبياء منذ البدء وإلى الآن، حتى الخاتم، من آدم حتى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لغرض واحد وهو تبديل هذه الحيوانات إلى إنسان، الهدف هو هذا. جميع الكتب التي أُنزلت من السماء إلى الأنبياء، والتي أعظمها القرآن، تهدف إلى هذه الغاية نفسها، وهي إنقاذ أفراد هذا الإنسان الذين وقعوا في الظلمات، وغرقوا في الدنيا، ولا يفكّرون إلّا بأنفسهم، وكلّ ما يُريدونه هو لأنفسهم، لا يُفكّرون أصلاً بأن شيئاً آخر غيرهم موجود، إنّهم (الأنبياء) يريدون نجاة هؤلاء من هذه الظلمات، وإيصالهم إلى عالم النور، ظلمات كثيرة فوقها ظلمات، الآية الشريفة تشير إلى أنّه يوجد في هذه الجهة الظلمات ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ وفي تلك الجهة النور .

صناعة الإنسان طريق الأنبياء عليهم السلام
وتلك الطريق التي اتخذها الأنبياء كانت طريق التربية والتهذيب. لقد جاء الأنبياء لأجل الإنسان، جاؤوا لأجل بناء الإنسان ولم يكن لديهم عمل آخر. لقد جاؤوا لكي يهدوا الناس الذين هم على شاكلة الإنسان ولكنّهم يسيرون في الطريق الخاطئ، ليهدوهم إلى الصراط المستقيم .

طريق الأنبياء عليهم السلام هي طريق التربية والتعليم
العالم مدرسة، ومعلّمو هذه المدرسة هم الأنبياء والأولياء. ومربّي هؤلاء المعلّمين هو الله تبارك وتعالى. فالله سبحانه وتعالى قد ربّى وعلّم الأنبياء وأرسلهم لتربية كافّة الناس وتعليمهم.
بُعِث الأنبياء أولو العزم لكلّ البشر وهم معلّمو البشر ومربّوهم جميعاً، ومعلّم هؤلاء ومربّيهم هو الحقّ تعالى. فبعد أن تعلّموا الأحكام الإلهية وتربّوا أُمِروا بتربية البشر وتعليمهم.
لقد جاء في القرآن الكريم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فيذكر الدافع من وراء البعث في هذه الآية، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسولاً من بين هؤلاء الأميّين والجهلة والذين لا عهد لهم بالتربية والتعليم الإلهي، حتى يتلو آيات الله عليهم، وبتلاوة آيات القرآن وبالتربية التي تلقّاها نفسه في ظلّ التعاليم الإلهية، يقوم بتربيتهم ويزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة. تشتمل هذه الآية على نكات كثيرة حول أهمّية تربية المعلِّم وأهمّية التعليم والتعلّم. ففي قوله ﴿هُوَ الَّذِي﴾ دلالة واضحة على مدى أهمّية هذا الموضوع وعظمته حتى نسبه إلى نفسه إذ يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ﴾ رسولًا من بين الناس، وجميع العالم أميّون، حتى الذين تعلّموا حسب الظاهر علوماً وعرفوا صناعات واطّلعوا على مسائل، لكن في الحقيقة جميعهم أميّون وجميعهم في ضلال مبين في قبال تلك التربية الإلهية التي تتحقّق لهم على أيدي الأنبياء.

الطريق الوحيد للتربية والتعليم هو ذلك الطريق الذي أوحى به الله ربّ العالمين، إنّه فقط ذلك الطريق الذي بيّنه الحقّ، وذلك التهذيب المقترن بالتربية الإلهية، والتي يربّي الأنبياء الناس عليها. إنّه ذلك العلم الذي عرضه الأنبياء على البشر، ذلك العلم الذي يوصل الإنسان إلى كماله المطلوب. كما تبيّن الآية الكريمة: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ ، فالناس قسمان: قسم مؤمن، وهم الذين تربّوا على يد الأنبياء، وبواسطة تربية الأنبياء خرجوا من جميع الظلمات والمشاكل ودخلوا في النور والكمال المطلق. فهذه الآية توضح ميزان المؤمن وملاك الإيمان، وتفصل مدّعي الإيمان عن المؤمنين، فالمؤمنون هم الذين خرجوا من جميع الظلمات إلى النور ومن جميع النقائص وتجاوزوا جميع الموانع التي تقف في طريق الإنسان وذلك من خلال التربية الإلهية التي تلقّوها بواسطة الأنبياء الذين ربّاهم الله. فميزان المؤمن هو هذا. كلّ شخص قد خرج من جميع الظلمات بواسطة تعليم الأنبياء ووصل إلى النور المطلق هو المؤمن.

إنّ مدّعي الإيمان كثيرون، لكن المؤمنين قليلون، وأولئك الذين في الجهة المقابلة للمؤمنين ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ فوليّهم ليس الله بل الطاغوت، والطاغوت يُخرج الكفّار من النور ويوصلهم إلى الظلمات. فملاك المؤمن وغير المؤمن حسب هذه الآية الشريفة هو هذا. المؤمن الحقيقي قد اتبع الأنبياء وتربّى على أيديهم بحيث خرج من جميع الظلمات والنقائص ووصل إلى النور، فمعلِّمه ووليّه هو الله سبحانه وتعالى وبالواسطة هم الأنبياء. فالله خصّ الأنبياء بتربيته وهم جاؤوا لتربيتنا وتربية جميع البشر. فإذا ما تربّينا على أيديهم واستفدنا من العلوم التي جاؤوا بها للبشر ونهلنا من تعاليمهم، نصير على الصراط المستقيم ونهتدي إلى النور،ونهتدي إلى الله تبارك وتعالى الذي هو النور المطلق .

هدف الأنبياء عليهم السلام معرفة النفس والله تعالى
فكلّ مشاكلنا ناشئة عن كوننا محجوبين عن مشاهدة الحقيقة كما هي ونظام الوجود كما هو. إنّنا نتوهّم أنَّ الحياة هنا شيء والعدم هنا نقص، في حين أنَّ الحياة هنا هي تنزّل تلك الحقيقة الآتية من عالم الغيب، وأنَّ الموت - إن كان موتاً إنسانياً - هو الرجوع إلى تلك المرتبة التي كانت أولاً، والمراتب والشؤون مختلفة بالطبع.
إنّ كلَّ ما جاء به الأنبياء لم يكن مقصوداً بذاته، فتشكيل الحكومة ليس هدفاً مقصوداً بذاته للأنبياء، والدعوات مهما تكن فإنّما هي لإيقاظ الإنسان، ولتفهيمه وإراءته كيف كان قبلًا وما هو الآن؟ وكيف سيكون فيما بعد؟ وكيف هو العالم بالنسبة للذات المقدّسة للحقّ تعالى؟ وإن أيدينا لتقصر عن الوصول إلى هذه المسائل، ونأمل ببركة أولياء الله أن نحصل نحن أيضاً على معرفة قليلة وتنزاح عن أعيننا بعض الحجب لنُدرك قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ، و﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ بقلبنا ووجودنا لا بالإدراك العلمي، بل بالمشاهدة، لأنَّ إدراكه العلمي أمر سهل، لكن الوصول إلى حيث يشهد الإنسان هذه الأمور أمر صعب ويحتاج إلى المجاهدة، وقد وصل الأنبياء والأولياء بمجاهداتهم إلى هذه الأمور .

دافع البعثة تزكية النفوس
أولئك الذين يعتبرون أنّ البعثة هي بعثة إلهية وأنّ دافعها هو هداية جميع الخلق، عليهم أن يتوجّهوا إلى غاية البعثة، وأن ينتبهوا إلى الدافع وراءها والذي بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ انتبهوا لماذا كانت البعثة، وما هو دافع البعثة وما الذي يحصل لو أنّ شخصاً خالف هذا الدافع؟
لقد كان الدافع وراء البعثة تزكية النفوس وتزكية النفوس إنّما تكون بانتفاء الأنانية، وانتهاء الإنّيّة ورؤية النفس، والقضاء على طلب الرئاسة، وزوال حبّ الدنيا، ليحلّ الله تبارك وتعالى وحبّه محلّ الجميع. إنّ غاية البعثة هي أن تحكم حكومة الله في قلوب البشر حتى تحكم بالتّالي في المجتمعات البشرية .

تزكية النفوس لأجل إدراك الكتاب والحكمة
بعث فيكم رسولًا يتلو عليكم القرآن والآيات الإلهية، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، ولعلّ هذا هو غاية التلاوة، يتلو من أجل "التزكية" ومن أجل "التعليم" ومن أجل التعليم العمومي، تعليم هذا الكتاب نفسه وتعليم الحكمة التي هي من هذا الكتاب نفسه. إذاً غاية البعثة هي نزول الوحي ونزول القرآن وغاية تلاوة القرآن على البشر هي أن تحصل لهم التزكية وتُصفّى النفوس من هذه الظلمات الموجودة فيهم حتى تكون أرواحهم وأذهانهم بعد أن تُصفّى نفوسهم قادرة على فهم الكتاب والحكمة. فالغاية هي التزكية من أجل فهم الكتاب والحكمة.
فلا تستطيع كلّ نفس أن تُدرك هذا النور المتجلّي والمتنزّل من الغيب والواصل إلى الشهادة. إنّ تعليم الكتاب والحكمة غير ميسّر طالما أنّه لا توجد تزكية، فيجب تزكية النفوس من كلّ التلوّثات، والتي أكبرها عبارة عن تلوّث نفس الإنسان بأهوائها النفسانية.
وما دام الإنسان في حجاب نفسه، لا يستطيع أن يُدرك هذا القرآن الذي هو نور وطبقاً لما ورد في القرآن فهو نور، ولا يستطيع الغارقون في الحجاب وخلف الحجب الكثيرة أن يدركوا هذا النور، هم يظنّون أنّهم يستطيعون، ولكنّهم لا يستطيعون. فلا يكون الإنسان أهلًا لكي ينعكس هذا النور الإلهي في قلبه ما دام غير قادر أن يخرج من حجاب نفسه الشديد الظلمة، ما دام أسيراً للأهواء النفسانية، ما دام أسيراً للأنانيات، وما دام أسيراً للأمور التي قد أوجدها في باطن نفسه من ظلمات ﴿بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾ .

إنّ الذين يريدون أن يفهموا القرآن ومحتواه، وليس صورته النازلة الصغيرة، بل يريدون أن يفهموا محتوى القرآن بحيث إنّهم كلّما قرؤوا أكثر كلّما ارتفعوا أكثر وكلّما قرؤوا أكثر كلّما اقتربوا من مبدأ النور ومن المبدأ الأعلى، فهذا لا يمكن إلا برفع الحجب و"أنت حجاب نفسك" فيجب رفع هذا الحجاب حتى تستطيع أن تُدرك هذا النور كما هو، والإنسان لائق هذا الإدراك. إذاً فإحدى الغايات هي تعلّم الكتاب بعد التزكية وتعلّم الحكمة بعد التزكية.

إنّ أول آية نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الروايات والتواريخ هي آية: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾. فهذه الآية هي أول آية، بحسب ما نُقل، قرأها جبرائيل على الرسول الأكرم وقد دُعي فيها منذ البداية إلى "القراءة" والتعلّم. ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ وفي نفس هذه السورة ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾. فهذه السورة هي أول ما نزل من الوحي وفي أول نزول للوحي وردت هذه الآية في هذه السورة ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾. فيُعلم من ذلك أنّ الطغيان ووجود الطاغوت من الأمور الأخطر والتي تقع على رأس الأمور، ومن أجل سحق الطاغوت يجب تعليم "الكتاب" و"الحكمة" وتعلّم "الكتاب" و"الحكمة" و"التزكية". فالإنسان هو هكذا، والوضع الروحي لكلّ الناس هو بهذا النحو، فبمجرّد أن يستغني أحد ما يطغى. فلو استغنى مالياً يطغى بنفس المقدار، ولو استغنى علمياً يطغى بنفس المقدار، ولو حصل على مقام فإنّه يطغى بنفس مقدار ذلك المقام. ففرعون الذي يُسمّيه الله تبارك وتعالى طاغية هو طاغ لأنّه حصل على المقام ولم يكن فيه دافع إلهي فجرّه هذا المقام إلى الطغيان. الأشخاص الذين يحصلون على الأمور الدنيوية بدون تزكية النفس، فبقدر ما يحصّلون منها فإنّ طغيانهم سوف يزداد، وإنّ وبال هذا المال وهذا المنال وهذا المقام وهذا الجاه وهذا المنصب هو من الأمور التي توقع الإنسان في الصعوبات والمحن في الدنيا، وفي الآخرة أكثر. إنّ غاية البعثة هي أن تُخلّصنا من أنواع الطغيان، وأن نُزكّي أنفسنا، وُنصفّي نفوسنا وننقذها من هذه الظلمات. فلو حصل هذا التوفيق للجميع، ستُصبح الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن وتجلياً لنور الحقّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد