من التاريخ

الأشاعرة


هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق، وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري الصحابي المعروف، ولذلك اشتهر بالأشعري منتسباً إلى جده الأعلى .

قال ابن الأثير: كان أبو موسى الأشعري عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على زبيد وعدن، واستعمله عمر على البصرة، ثم أقرّه عثمان عليها، ثم عزله، فصار هو من البصرة إلى الكوفة حتّى استعمله عثمان مرة ثانية على الكوفة فلم يزل عليها حتّى قتل عثمان فعزله علي (عليه السلام) عنها.

لم يكن عزل عليّ إيّاه عنها اعتباطاً، بل لأجل أنّه كان يخذّل الناس عن الإمام (عليه السلام) عند حربه (عليه السلام) مع الناكثين في أطراف البصرة.
اختلف المترجمون في ميلاد أبي الحسن الأشعري، والأظهر أنّه ولد عام 260 هـ في البصرة وتوفّي سنة 324 هـ ، وتخرج في كلام المعتزلة على أبي علي الجبائي الّذي انتهت إليه رئاسة المعتزلة في البصرة، ولمّا مات قام مقامه ابنه أبو هاشم في التدريس والتقرير .
وقد بالغ بعض المترجمين في فضائله، نذكر منها مقتطفات : روى ابن عساكر عن أبي الحسين السروي قال: كان الشيخ أبو الحسن قريباً من عشرين سنة يصلّي صلاة الصبح بوضوء العتمة!!
نحن لا نعلّق على هذه الفضيلة المزعومة بشيء، ولكن نضيف انّه قلّما يتّفق لإنسان أن لا يكون مريضاً ولا مسافراً ومعذوراً طيلة عشرين سنة حتّى يصلّي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة!!\
إنّ سهر الليالي في هذه المدة الطويلة مخالف للعقل والشرع، وقد قال سبحانه: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِرًا ) ( [1]) .

وروى ابن عساكر عن أبي عبد الله بن دانيال يقول: سمعت بندار بن الحسين وكان خادم المترجم قال: كان أبو الحسن يأكل من غلّة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري على عقبه، وكانت نفقته في كلّ سنة 17 درهماً. ( [2])
وهذا المبلغ لا يفي بقرطاس كتبه وحبرها ويراعها!! والعجب أنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي حسب الرواية حقيقة راهنة، وأخذ بالمحاسبة الدقيقة، وخرج بهذه النتيجة: أنّ الأشعري كان ينفق في السنة 17 درهماً، والدرهم يساوي 95 ر 2 غراماً من الفضة، فكان مقدار ما ينفقه في العام هو ما يساوي 15 ر 50 غراماً من الفضة، ثم قال: فما كان أرخص الحياة في تلك الأيام!!( [3]) مؤلفاته: قد ذكر الشيخ الأشعري فهرس كتبه في كتاب سمّاه «العمدة» كما فهرس غيره مثل ابن عساكر، وقد بلغ عدد كتبه 98 كتاباً، غير أنّ أكثر هذه الكتب عصفت بها عواصف الدهر فلم يصل إلينا منها إلاّ القليل.

أمّا كتبه الموجودة المطبوعة، فهي :
1.الإبانة عن أُصول الديانة.
2.مقالات الإسلاميّين: والكتاب يتناول البحث عن الفرق الإسلامية .
3.اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع.

رجوعه عن الاعتزال :
وقد تـخرج فـي كلام المعتزلة على أُستاذه أبي علي الجبائي (235-303 هـ) ولكنّه بعد سنتين من وفاة أُستاذه (305 هـ) أعرض عن الاعتزال وأعلن براءته في جامع البصرة عن مذهبه السابق، وعندما تسنّم المنبر في البصرة، نادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، انّا فلان بن فلان،كنت قلت بخلق القرآن، وإنّ الله لا يرى بالأبصار، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة; وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير. ( [4])
وأمّا ما هو المبرر لعدوله عن الاعتزال على الرغم من أنّه شبّ وشاب على مذهب الاعتزال، فقد اختلفت فيه كلمات المؤرّخين، ويمكن أن يتلخصّ في الوجهين التاليين:

1.الدافع السياسي :
إنّ الخلفاء العباسيّين من عصر المأمون إلى المعتصم إلى الواثق بالله كانوا مع أهل التعقّل والتفكير، فكان للاعتزال في تلك العصور رقي وازدهار، فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232 هـ وأخذ المتوكّل بزمام السلطة، انقلب الأمر وصارت الشوكة لأصحاب الحديث، ولم تزل السيرة على ذلك حتّى عهد المقتدر من عام 295 هـ إلى 320 هـ ، وفي تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث بغية التقليل من الضغوط المتزايدة الّتي كانت تمارس من قبل الجهاز العباسي الحاكم على أصحاب مذهب الاعتزال .
2.فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث:
إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث يومذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر من العقائد المستوردة إلى أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان، فحاول الإمام الأشعري برجوعه عن الاعتزال والتحاقه بأهل الحديث أن يصلح عقيدة أهل الحديث وتنزيهها تحت غطاء انّه منهم، فصار الرجوع عن مذهب الاعتزال شبه واجهة لتقبل أهل الحديث .
لكن هذا الوجه قابل للملاحظة والتأمّل فيما ذكره في كتبه الثلاثة ليدفع عنها سهام النقد:
الأوّل: انّ أهل الحديث يرون فعل الإنسان مخلوقاً لله تبارك وتعالى وليس له فيه دور، وعند ذلك يعترض عليهم بأنّه إذا كان الواقع كذلك فما معنى الثواب والعقاب؟! والشيخ الأشعري لدفع هذا الإشكال، أضاف كلمة وقال: «الله خالق، والعبد كاسب».
وظلت هذه الكلمة عبر القرون مخبوءة تحت قراءات مختلفة حتّى عدت من الألغاز .
الثاني: قال أهل الحديث: القرآن قديم بلفظه ومعناه، والأشعري قال: بأنّ كلامه سبحانه ليس المقروء الملفوظ إذ هو حادث، وانّما كلامه القديم هو الكلام النفسي القائم بالله.
ومع أنّه أفرغ عقيدة أهل الحديث في قوالب خاصة ذكرها في كتابيه: «الإبانة» و «مقالات الإسلاميين»، ولكن أهل الحديث لم يقبلوا منه التعديل، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري .

حكى علي بن أبي يعلى في طبقاته بطريق الأهوازي، حيث قال: قرأت على علي القومسي عن حسن الأهوازي، قال: سمعت أبا عبد الله الحمراني، يقول: لمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم، ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس، وقلت وقالوا، وأكثر الكلام; فلمّا سكت قال البربهاري:
وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
قال: فخرج من عنده وصنّف كتاب «الإبانة» فلم يقبله منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها.( [5]) وعلى كل حال فالشيخ الأشعري قد امتاز عن أهل الحديث باستحسان الخوض في المسائل الكلامية والاستدلال بالدليل والبرهان والآيات القرآنية والأحاديث  النبوية، وقد ألفّ في ذلك رسالة مفصّلة، وقف في وجوه أهل الحديث الذين كانوا يحرمون الخوض في هذه المسائل، وعلى ذلك الغرار ألفّ كتابه الثالث «اللمع»، وقد طبعت الرسالة السابقة في ذيل كتاب اللمع.

ثم إنّ مذهبه وإن لم يكن رائجاً بين الناس ولكن تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه قد أحكموا أُصوله حتّى انتشر انتشاراً واسع النطاق إلى أن صارت عقيدة الشيخ الأشعري عقيدة أهل السنّة اليوم، حتّى أنّهم يقدّمون رسائله العقائدية على عقيدة الطحاوي (المتوفّى عام 321 هـ) علماً انّ الثانية أقرب إلى عقائد أهل الحديث .
قد طرح الشيخ في كتاب «الُلمَع» العناوين التالية:
1-استدلاله على وجوده سبحانه .
2-البارئ لا يشبه المخلوقات.
3-استدلاله على وحدانية الصانع.
4-إعادة الخلق المعدوم جائز.
5-الله سبحانه ليس بجسم.
6-صفاته الذاتية .
7-صفاته قديمة لا حادثة.
8-صفاته زائدة على ذاته .
9-رأيه في الصفات الخبرية.
10-أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه . 11-الاستطاعة مع الفعل لا قبله .
12-رؤية الله بالأبصار في الآخرة.
13-كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي.
14-كلامه سبحانه غير مخلوق أو قديم .
15-عمومية إرادته لكلّ شيء.
16-آثار التحسين والتقبيح العقليين (التعديل والتجوير).
***
هذه هي الأُصول الستة عشر لا يمكن لنا في هذا المختصر نقل كلمات الأشعري فيها، بل نقتصر على بعض الأُصول الخاضعة للنقاش .

1.أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه:
قال في «الإبانة»: إنّه لا خالق إلاّ الله، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة كما قال: ( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) ( [6])، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، كما قال سبحانه: ( هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللهِ ) ( [7]) . ( [8])
وقال في «مقالات الإسلاميّين» في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: «وأقروا انّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجل، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً». ( [9]) لا شك انّ القول بالتوحيد في الخالقية وانّه لا خالق في صفحة الكون إلاّ الله سبحانه من روائع الأُصول الّتي طرحها في عقائده، خلافاً للمعتزلة حيث نفوا خالقيته سبحانه لفعل العبد وبذلك اعترفوا بالثنوية فالله خالق كل شيء إلاّ فعل الإنسان، والإنسان خالق لأفعاله إلاّ أنّ تفسير التوحيد بالخالقية بشكل
يسفر عن الجبر وسلب الاختيار ونفي العلل الطبيعية أمر غير صحيح، فالتوحيد في الخالقية يجب أن يفسر على نحو ينسجم مع اختيار الإنسان أوّلاً، ومسؤوليته ثانياً، كما ينسجم مع ما كشف عنه العلم ومازال يكشف عن الأسباب والمؤثرات الطبيعية.

والّذي يمكن أن يقال هو انّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير، والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكل شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل، بل يعني انّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل، والكلّ مخلوق له، ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
فالأشعري خلع الأسباب والعلل ـ وهي جنود الله سبحانه ـ عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني: فعل العبد في سلطانه.

والحق الّذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين لكن لا بقدرتين متساويتين، ولا بمعنى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها ( وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) ( [10]) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً، إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطويلة علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل، والتفصيل يطلب من محلّه، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً». ( [11])

ثم إنّ الشيخ الأشعري فراراً من مضاعفات القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال البشر وانّه ليس له دور في أفعاله، أضاف نظرية الكسب وقال: «الله خالق والإنسان كاسب» وقد اختلفت كلمة الأشاعرة من تلاميذ منهجه في تفسير الكسب وأوضح تفسير له ما ذكره الفاضل القوشجي الأشعري في المقام حيث قال:
والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من دون أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، ومعنى ذلك انّ الفعل صادر من الله غاية الأمر كون الإصدار منه تقارن مع وصف من صفات العبد، وهو انّه إذا صار ذات قدرة غير مؤثرة وإرادة، كذلك يصدر الفعل من الله سبحانه مباشرة فلا يكون للعبد دور سوى كونه محلاً له. ( [12])

يلاحظ عليه: أنّه إذا لم يكن للعبد دور إلاّ مقارنة الصدور من الله بوجود الاستطاعة في العبد والإرادة، فهل يكون ذلك مسوغاً لتعذيبه وتثويبه والمفروض انّ القدرة غير مؤثرة، وإرادته أيضاً فعل الله سبحانه وليس له دور سوى كونه محلاً لوجود شيئين: إيجاد الإرادة من الله في ضميره،  والفعل في الخارج؟!
وبما انّهم اختلفوا في تفسير الكسب قال الشاعر:
مما يقال ولا حقيقة عنده *** معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري، والحال *** عند البهشمي وطفرة النظام( [13])

2.كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي :
أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً، وقد شغلت المسألة بال المفكّرين في عصر الخلفاء وحدثت بسببها مشاجرات، بل مصادمات دامية سجلها التاريخ .
ثم إنّ الاختلاف في كلامه سبحانه واقع في موضوعين:
الأوّل: ما هو حقيقة الكلام؟ وهل هو من صفات ذاته كالعلم والقدرة والحياة، أو من صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرزق ؟
الثاني: هل هو قديم أو حادث؟ هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ فنحن ندرس في المقام نظرية الحنابلة ثم الأشاعرة، وقد عرفت أنّ الأشعري أجرى الإصلاح في عقائد أهل الحديث في موارد منها تكلّمه سبحانه.
ذهبت الحنابلة إلى أنّ كلامه حرف وصوت يقومان بذاته، وأنّه قديم، وقد بالغوا فيه حتّى قال بعضهم جهلاً: إنّ الجلد والغلاف قديمان. ( [14]) ولمّا كانت تلك النظرية تشوّه سمعة القائل بها، قام الشيخ الأشعري إلى تصحيحها فأخرج كلامه سبحانه عن المعنى السخيف الّذي تتبنّاه الحنابلة إلى معنى آخر، وهو القول بالكلام النفسي القائم بذات المتكلّم، وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في «الإبانة» و لا في «اللمع»، وانّما ركز فيهما على المسألة الثانية وهي انّ كلامه سبحانه غير مخلوق ولم يبحث عن حقيقة كلامه، ومع ذلك فقد نقلها عنه الشهرستاني وقال :

وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية، وبذات المتكلّم، وليس بحروف ولا أصوات، وإنّما هو القول الّذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده، وفي تسمية الحروف الّتي في اللسان كلاماً حقيقياً تردد، أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز؟ وإن كان على طريق الحقيقة فإطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك. ( [15])

ثم إنّ الأشاعرة اختلفت في تفسير الكلام النفسي، وأحسن ما قيل في تفسيره ما ذكره الفاضل القوشجي في شرح التجريد، قال:
إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك، يجد في نفسه معاني يعبر عنها، نسمّيها بالكلام الحسّي، والمعنى الّذي يجده ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه، هو الّذي نسمّيه الكلام. ( [16]) يلاحظ عليه: أنّ القائل بالكلام النفسي يعدّ التكلّم صفة ذاتية وراء العلم والإرادة، ولذلك اعتقدوا انّ في الاخبار حتّى في الأذهان البشرية وراء العلم صفة باسم الكلام النفسي وفي الإنشائيات كالأمر والنهي وراء الإرادة والكراهية شيء آخر باسم الكلام النفسي، فلابد أن يفسر الكلام النفسي بوجه يختلف عن العلم في الاخبار والإرادة والكراهية في الإنشاء مع أنّ ما ذكره يرجع إلى العلم، لأنّ المعاني الّتي تدور في خلد المتكلّم ليست إلاّ تصوّر المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة، فيرجع الكلام النفسي في الجمل الخبرية إلى التصوّرات والتصديقات، فأيّ شيء هنا وراء العلم حتّى نسمّيه بالكلام النفسي؟ كما أنّه عندما يرتّب المتكلّم المعاني الإنشائية فلا يرتب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدّمة لهما، كتصوّر الشيء والتصديق بالفائدة، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة، فأيّ شيء هنا غيرهما حتّى نسمّيه بالكلام النفسي؟ وعند ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الاخبار، أو وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء، مع أنّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف ذاتي باسم التكلّم وراء العلم والإرادة، ولأجل ذلك يقولون: كونه متكلّماً بالذات، غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

3.آثار التحسين والتقبيح العقليّين:
قد عنون الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم التعديل والتجوير، وهذه المسألة تعد الحجر الأساس لكلام الأشعري، والشيخ تبعاً لأهل الحديث والحنابلة صوّر العقل أقلّ من أن يدرك ما هو الحسن وما هو القبيح، قائلاً: بأنّ تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية، وتقيّدها بقيد وشرط، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل، كما عليه الاجتناب عمّا هوالقبيح عنده، فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهية، قالوا: لا حسن إلاّ ما حسّنه الشارع، ولا قبيح إلاّ ما قبّحه، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسناً .
فإن كنت في ريب من هذا فلنذكر من كلامه في إنكار الحسن والقبح العقليين، يقول في كتاب «اللمع»:
فإن قال قائل: هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟
قيل له: لله تعالى ذلك، وهو عادل إن فعله ـ إلى أن قال: ـ ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. ( [17])

يلاحظ عليه أوّلاً: نحن نسأل الشيخ الأشعري إذا اُولِمَ طفله في الآخرة وعُذِّبَ بألوان التعذيب ورأى هو ذلك بأُمّ عينيه فهل يرى ذلك عين العدل، ونفس الحسن، أو انّه يجد ذلك الفعل في صميم ذاته أمراً منكراً؟!
ومثله ما لو فُعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمناً بالله، فهل يرضى بذلك في باطنه ويراه نفس العدل، بذريعة انّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء؟!

وثانياً: أنّه لا شك في أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت يقدر على كل أمر ممكن من غير فرق بين الحسن والقبيح، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه لكنَ حكم العقل، بانّ العمل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ليس تحديداً لملكه وقدرته، وهذا هو المهم في حل عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع تدخل في شوؤن رب العالمين، ولكنّ الحق غير ذلك، وذلك للفرق بين كون العقل كاشفاً عن مشيئته وعلمه سبحانه، وبين كونه حاكماً وفارضاً عليه سبحانه، بل العقل في مجال الحسن والقبح يكشف عن أنّ الموصوف بما له من الحكمة والغنى لا يصدر منه القبيح ولا يُخلُّ بما هو حسن.

وبتعبير آخر: انّ العقل يكشف عن أنّ الموصوف بكل كمال، والغنيّ عن كل شيء يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح، لتحقّق الصارف عنه وعدم الداعي إليه، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً، وهذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنّه يمتنع عليه القبائح، ولا تهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل، بل الله، بحكم انّه حكيم، التزم وكتب على نفسه أن لا يخل بالحسن ولا يفعل القبيح، وليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.
ولعلّ هذا المقدار بالبحث حول التحسين والتقبيح العقليّين كاف لمن أراد الحق .

4.رؤية الله بالأبصار في الآخرة :
إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتمّ الأشعري بإثباتها اهتماماً بالغاً في كتابيه: «الإبانة» و «اللمع» وركز عليها في الأوّل من ناحية السمع، وفي الثاني من ناحية العقل .
قال في «الإبانة»: وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله. ( [18])
وقال في «اللمع»: إن قال قائل: لم قلتم إنَّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟ قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه، لا يلزم في القول بجواز الرؤية. ( [19])

إنّ رؤية الله تبارك وتعالى فكرة مستوردة وبدعة يهودية نقلها الأحبار إلى الأوساط الإسلامية وحيكت الأخبار على منوالها، ويشهد على ذلك ما في العهد القديم، وإليك بعض المقتطفات منه:
1-رأيت السيد جالساً على كرسي عال، فقلت: ويل لي لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود. ( [20]) والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره .
2-كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار .( [21])
ولمّا كان القول بالرؤية في الآخرة يستلزم المقابلة مع المرئي وكونه في جهة ومكان، عمد كثير من الأشاعرة منهم التفتازاني إلى تجريد الرؤية عن هذه السلبيات . يقول التفتازاني: ذهب أهل السنّة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يرى، وأنّ المؤمنين في الجنة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان. ( [22])

وهذه القيود الّتي ذكرها التفتازاني، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار، ولكن مجردة عن المقابلة والجهة والمكان، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان، فتحقّق الرؤية ـ سواء أقلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء ـ في غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل.

أدلّة القائلين بالرؤية :
إنّ أفضل ما استدلّ به القائلون بالرؤية هي الآية التالية:
قوله سبحانه: ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَ تَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( [23]) .
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: الدليل على أنّ الله يرى بالأبصار قوله تعالى ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الّذي يكون بالعين الّتي في الوجه، فصح انّ معنى قوله تعالى: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) رائية.( [24]) وقد شغلت الآية بال الأشاعرة والمعتزلة، فالفرقة الأُولى تصرّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية، والثانية تصرّ على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية، ولكنّ الحق انّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة حتّى ولو قلنا إنّ النظر فيها بمعنى الرؤية، إذ يعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها مع بعض، وإليك البيان:
إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:
أ ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ ) يقابلها ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ ) .
ب ـ ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) يقابلها ( تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) .

وبما انّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى، فيكون قرينة على المراد منها; فإذا كان المقصود من المقابل انّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها، يكون المراد من عدله وقرينه عكسه وضده، وليس هو إلاّ أن الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته، ومتوقعة لفضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل، وهو خلف .
وبعبارة أُخرى: يجب أن يكون المتقابلان ـ بحكم التقابل ـ متحدي المعنى والمفهوم، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأوّل ـ أعني: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ـ هو رؤية جماله سبحانه وذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه ـ أعني: ( تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ـ هو حرمان هؤلاء عن الرؤية، أخذاً بحكم التقابل، وبما أن تلك الجملة ـ أعني: القرين الثاني ـ لا تحتمل ذلك المعنى ـ أعني: الحرمان من الرؤية ـ بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه .
إلى هنا تمّت دراسة عقائد الأشاعرة على وجه الإجمال.
***
أعيان الأشاعرة:
ثم إنّ هناك رجالاً ارتبطت أسماؤهم ببلورة المذهب الأشعري، ولولاهم لما قام لهذا المذهب عمود ولا اخضرّ له عود، وإليك أسماء أعلامهم عبر التاريخ:
1-أبو بكر الباقلاني (المتوفّى 403 هـ) .
2-أبو منصور عبد القاهر البغدادي (المتوفّى 429 هـ).
3-إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (419-478 هـ).
4-حجة الإسلام الإمام الغزالي (450-505 هـ).
5-أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (479-548 هـ).
6-أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي فخر الدين الرازي (544-606 هـ).
7-أبوالحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم المعروف بسيف الدين الآمدي (551-631 هـ). 8-عبد الرحمن بن أحمد عضد الدين الإيجي (708 ـ 756 هـ).
9-مسعود بن عمر بن عبد الله المعروف بسعد الدين التفتازاني (712-791 هـ).
10-السيد علي بن محمد بن علي الحسيني المعروف بالسيد الشريف (المتوفّى 816 هـ).
11-علاء الدين علي بن محمد السمرقندي القوشجي (المتوفّى 879 هـ).
هذا بعض الكلام في المذهب الأشعري، وقد صار مذهباً رسمياً لأكثر أهل السنّة .
 



[1] . يونس: 67 . 
[2] . التبيين: 142 . 
[3] . مذاهب الإسلاميّين: 503- 504 . 
[4] . فهرست ابن النديم: 271 ; وفيات الأعيان: 3 / 285 . 
[5] . تبيين كذب المفتري: قسم التعليقة: 391 . 
[6] . الصافات: 96 . 
[7] . فاطر: 3 . 
[8] . الإبانة: 20 . 
[9] . مقالات الإسلاميين: 1 / 321 . 
[10] . المدثر: 31 . 
[11] . الكافي: 1 / 183، باب معرفة الإمام، الحديث 7 . 
[12] . شرح التجريد للقوشجي: 445 . 
[13] . القضاء والقدر: 185 . 
[14] . المواقف: 293 . 
[15] . نهاية الاقدام: 320 . 
[16] . شرح التجريد للقوشجي: 420 . 
[17] . اللمع: 116- 117 . 
[18] . الإبانة: 21 . 
[19] . اللمع: 61 بتلخيص . 
[20] . اشعيا: 6 / 1- 6 . 
[21] . دانيال: 7 / 9 . [22] . شرح المقاصد: 2 / 111 . 
[23] . القيامة: 20- 25 .
[24] . اللمع: 64 .