من التاريخ

تدوين الحديث (1)

 

الشيخ محمد العبيدان
من المعلوم أن الكتاب والسنة هما الدعامتان الأساسيتان لأحكام الدين والتعاليم الإسلامية. لكن حاجة المسلمين إلى السنة بدت أكثر من حاجتهم إلى القرآن، لأن آيات الأحكام الواردة في القرآن معدودة ومحدودة، وقيل: إنها خمسمائة آية حسب المشهور، بحيث لا يمكن الاقتصار عليها، والاكتفاء بها دون السنة الشريفة والحديث، وذلك لأنه:
أولاً: كون هذه الآيات تحتوي على الإجمال والإطلاق، والسنة هي الكفيلة بتفسيرها وبيانها.
ثانياً: أن هذا المقدار المحدود من الآيات لم يكن يفي ببيان جميع الأحكام والقوانين الدينية، وعلى هذا أجمع علماء الفريقين، بأن الحديث الصحيح الذي ثبت صدوره عن المعصوم(ع) بنحو القطع حجة على المسلمين، فهو كالقرآن من حيث حجيته ولزوم إتباعه والأخذ به.
هذا وقد وردت مجموعة من النصوص والأحاديث المتواترة عن النبي(ص) والأئمة المعصومين(ع) تؤكد أهمية الحديث من جهات مختلفة، تارة من حيث السنة نفسها، وتارة أخرى، من جهة ضرورة حفظها وتدوينها وتبليغها إلى الآخرين، فراجع أصول الكافي في كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث، وفضل الكتابة، وكتاب وسائل الشيعة في كتاب القضاء في أبواب صفات القاضي، وكذا مجمع الزوائد، كتاب العلم باب سماع الحديث وتبليغه، وسنن ابن ماجة، وغير ذلك.


ما هو الحديث:
الحديث لغة هو الشيء الجديد، ويطلق على مطلق القول والكلام.
وهو في اصطلاح المحدثين عبارة عن أقوال المعصوم وأفعاله وتقريره، نعم يفترق المسلمون في المعصوم سعة وضيقاً، حيث يخصه أبناء السنة بخصوص النبي الأكرم محمد(ص)، بينما يقول الشيعة بأن المعصوم هو النبي الأكرم والأئمة المعصومين من بعده، وهم خلفائه بالحق(ع).
ومن خلال ما ذكرنا يتضح أن الحديث هو نفسه السنة التي تعدّ المصدر الثاني للتشريع، وبيان الأحكام الإلهية التي يجب على العباد أن يقوموا بامتـثالها.
نعم لكي ينطبق عليها عنوان السنة، لابد أن تشتمل على أحد أمرين:
الأول: أن تكون قطعية الصدور، بمعنى أنها قد وردت بطريق متواتر، وسيأتي معنى التواتر إن شاء الله تعالى.
الثاني: أن تكون قد وصلت بطريق صحيح، ومعتبر.


الحديث سنداً ومتـناً:
هذا ويتكون الحديث من سند ومتن، ويراد من السند، عبارة عن السلسلة الرجالية الذين يقومون بنقل الحديث وروايته عن المعصوم حتى يصل إلينا، بينما المراد من متن الحديث، عبارة عن الكلام الذي صدر من المعصوم.
تدوين السنة عند المسلمين:
بعدما عرفت المكانة الخاصة التي يحتلها الحديث، لكونه مصدراً مهماً في مقام معرفة الأحكام الإلهية، فلابد أن نـتعرف متى بدأ الاهتمام بهذا العلم عند الفريقين، أعني السنة والشيعة، ومتى تمت عملية تدوين الحديث، والقيام بذلك.
التدوين عند السنة:
وقع الخلاف بين أهل الحديث والتأريخ في وقت بدأ التدوين عند أبناء العامة، على أقوال:
الأول: أن التدوين ظهر في عهد الصحابة.
الثاني: أنه ظهر في آخر العهد الأموي، وأن عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101هـ، أمر بجمع السنن فكتب دفاتر فبعث بها إلى كل بلد، أو أنه أمر ابن شهاب الزهري بالتدوين.
الثالث: أن التدوين كان في العصر العباسي.
هذا ولنشر هنا إلى بعض ما جاء في كلمات القوم في هذا المقام، وهو يشير إلى أمر مهم جداً، مفاده أن التدوين عند أبناء السنة لم يكن في الصدر الأول من الإسلام.
قال السيوطي: أخرج الهروي في ذم الكلام من طريق الزهري: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن واستشار فيه أصحاب رسول الله. فأشار عليه عامتهم في ذلك، فلبث شهراً يستخير الله في ذلك شاكاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إني ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء، فترك كتابة السنـن[o1] .
وكان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتابة العلم وتخليده في الصحف كعمر، وابن عباس، والشعبي، وقتادة ومن ذهب مذهبهم.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم: من كره كتابة العلم إنما كرهه لوجهين: أحدهما أن يتخذ مع القرآن كتاب يضاهي به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب، فلا يحفظ فيقل الحفظ.
وهذا هو رأي عمر وما أدى إليه اجتهاده في ذلك. وقال ابن عبد البر أيضاً: كان اعتماد الصحابة أولاً على الحفظ والضبط في القلوب غير ملتفتين إلى التدوين، فلما انتشر الإسلام وتفرقت الصحابة ومات معظمهم مست الحاجة إلى تدوين الحديث وتقيـيده بالكتابة[o2]. 

وقد ذهب الغزالي إلى أن حدوث التدوين كان في سنة 120، وبعضهم يرى أنه قبل ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز، وهذا كله يصب فيما ذكرناه في أول الحديث، من أن التدوين عندهم متأخر عن الصدر الأول.
جاء في الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمر ابن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنـته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر. 
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه.
وأبو بكر بن محمد بن عمر هذا كان أنصارياً مدنياً، ولي القضاء على المدينة لسليمان بن عبد الملك ولعمر بن عبد العزيز، وتوفي سنة 120 هـ، وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز سنة 99 هـ، إلى سنة 101 هـ، فعلى هذه الرواية قد يكون أمر أبو بكر بالجمع حول سنة 100 هـ.
يقول الدكتور أحمد أمين: ولكن هل نفذ هذا الأمر؟… كل ما نعلمه أنه لم تصل إلينا هذه المجموعة، ولم يشر إليها- فيما نعلم- جامعوا الحديث بعد. ومن أجل هذا شك بعض الباحثين من المستشرقين في هذا الخبر، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان من أهم المراجع لجامعي الحديث، ولكن لا داعي إلى هذا الشك فالخبر يروي لنا أن عمر أمر، ولم يرو لنا أن الجمع تم. فلعل موت عمر سريعاً عدل بأبي بكر عن أن ينفذ ما أمر به[o3] .
نعم مما لا ريب فيه أنه لما جاء العصر العباسي، وانـتصف القرن الثاني، بدأ التأليف في الحديث، كما بدأ في العلوم الأخرى، ووجدت هذه النـزعة في أمصار مختلفة، وفي عصور متقاربة، فجمع الحديث في مكة ابن جريح الرومي الأصل، المتوفى سنة 150 هـ، وفي المدينة جمعه محمد بن إسحاق المتوفى سنة 151هـ، ومالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ، وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة 160 هـ، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة 156 هـ، وحماد بن سلمة المتوفى سنة 176 هـ، وبالكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ، وبالشام الأوزاعي المتوفى سنة 156 هـ، وباليمن معمر المتوفى سنة 153 هـ، وبخراسان ابن المبارك المتوفى سنة 181 هـ، وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة 175 هـ.
وعلى كل حال، فإن الحديث قد تم تدوينه بعد قرن ونصف قرن من الزمان، وعندئذٍ خرج من حيز النسيان والانزواء إلى حيز المدارسة والكتابة، ولما كان المسلمون ينظرون إلى التدوين بكونه عملاً مخالفاً للسنة ومحرماً، لذلك فإنهم استصعبوه واستـثقلوه في بادئ الأمر حتى أجبرهم الخلفاء على ذلك.


المنع عن التدوين:
هذا وقد كان السبب الرئيس في عدم التدوين، هو المنع الذي صدر من الخليفة الأول، ومن بعده ما صدر من الخليفة الثاني، حيث أن الخليفة الأول، قد أحرق ما جمعه من أحاديث الرسول(ص) كما تحدث بذلك عائشة[o4] . 
وأما في عهد الخليفة الثاني، فراجع ما يذكره المؤرخون والكتاب حول تشدده وخشونته في المنع عن تدوين الحديث، تجد في ذلك الكثير.
تاريخ ظهور الصحاح الستة:
وعلى أي حال، لما أدرك المحدثون أخطاء السلف وشطحاتهم بالنسبة لمنعهم الحديث وكتابته، فبدأوا بتدوين الحديث وتأليفه، وبدأ علم الحديث يتحرك للإمام، بعد أن قضى الفترة الطويلة التي عاشها في الجمود والركود، ولعل كان ذلك رد فعل ناشئ عن الانفعال الذي برز إثر منع الحديث، ففي خلال قرن واحد أي من سنة 150-250 هـ، ظهرت على الساحة كتب كثيرة كلها تحمل اسم الصحاح والمسانيد والمستخرجات وغيرها.
وقد انصب هدف مؤلفي هذه الكتب في هذه الفترة الزمنية على جمع الحديث فقط، ولم تبوب الأحاديث وتقسم بعدُ إلى الحديث الصحيح والحسن والضعيف، بل كان الحديث مطلقاً يشكل المحتوى الأصلي للكتب والمسانيد حتى جاء عصر البخاري سنة 256 هـ، وسائر الصحاح.
قال ابن حجر: فلما رأي البخاري هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف، فلا يقال لغثه سمين فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين[o5] . 
ثم جاء تلميذه مسلم بن حجاج القشيري النيسابوري عام 261 هـ، فألف الجامع الصحيح، ومن بعده محمد بن يزيد بن ماجة القزويني، فصنف سننه، ثم كتب أبو داود سليمان بن داود السجستاني سننه، وبعده محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، دون جامعه المعروف بسنن الترمذي، وبعده أحمد بن شعيب النسائي دون سننه، ويقال له المجتبى.
وقد شكلت هذه الكتب الستة الركن الأصلي لجوامع أهل السنة، فهم يرجعون إليها ويعتمدون عليها في العقائد والفروع والتفسير والتاريخ، واشتهرت فيما بعد بالصحاح الستة، ويطلق تارة على صحيح البخاري ومسلم الصحيحين، وعلى الكتب الأربعة الأخرى بالسنن.
وبعد هذه الكتب صنفت المئات من الجوامع، وسميت بالمسند والمستدرك والمستخرج، إلا أنه لم ينل أي واحد منها مرتبة وشأناً عند أهل السنة كما كان شأن الصحاح الستة.
هذا وقد سميت هذه الكتب الصحاح، لأن أحاديثها وما تحتويها مثل الراوي والسند والمتن، قد حازت شروط الصحة، وإن أختلف أصحابها في شروط صحة الحديث، قد يكون حديث صحيحاً عند أحدهم، وعند الآخر غير مكتمل شروط الصحة، وادعى أرباب الصحاح أن كل ما ورد في صحاحهم مستجمع لشرائط الصحة.
ــــــــــــــــ

[o1]تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ص 25.
[o2]جامع بيان العلم ص 34.
[o3]ضحى الإسلام ج 3 ص 606-607.
[o4]تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 3.
[o5]هدى الساري مقدمة فتح الباري ص 5.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد