لقاءات

فريد النمر: بين الضبابية والانكشاف مصباح معرفي دقيق


نظمية الدرويش ..
الرؤية الشعرية؛ واحدة من أهم ركائز الحداثة في الشعر العربي اليوم، الدالة على التطور العميق والغني في القصيدة، المتعدية لشكلية التحديث الهندسي، في مستوى غير مسبوق في النظم والإبداع الشعريين. ففي حين اتخذ الحداثيون هندسة مختلفة في توزيع الأسطر الشعرية والتفعيلات وغيرها، نراهم قد اتخذوا لأنفسهم رؤيا جديدة نحو العالم، يكشفون بها دواخل إنسانية لم يقربها الشعر العربي الكلاسيكي من قبل.
وليدة الشعر وميزته المعاصرة في الانفتاح والعولمة، وجدت طاقة مخفية كانت محجوبة، جعلت للشعر الحديث مرتبة في القرب من الناس ومحاكاة وجدانهم، بطريقة قد تشرح الأحاسيس المعقدة، وقد تعقد البسيطة منها، وهذا ما يضع بعض القصائد وشعراءها تحت النقد.
المبالغة، الغموض، التكلّف، والذاتية، محاذير قد توقع شاعر الحداثة تحت مجهر النقّاد الذين تفتقدهم الساحة الشعرية، برغم وجود بعض الشعراء الذين كرسوا ويكرسون مساحات مقدسة في الشعر، تبقيه بعيدا عن مصيدة العولمة المفتوحة على الثقافات واللغات كافة. لذلك وفي طور هذا المخاض لا بد لنا من الوقوف عند كل ما هو مستجد في مرآة اللغة ألا وهو الشعر.
الرؤية الشعرية محور مقابلتنا مع الباحث الأدبي والشاعر فريد النمر، ليحدّثنا عن العنصر الذي ألهم الشعراء والمتذوقين في آن، ويكشف عن مدلولاته ودوره وخطوطه وتأثيره ومجالاته.


الرؤية الشعرية، التعريف والدلالة النصية
الرؤية الشعرية عند الشاعر، بغض النظر عن الشكل الكتابي الذي يتبناه في الكتابة النصية، حالة وجودية تملأ فراغ أسئلتها بأسئلة أكثر دقة وتفصيلاً في مفاصل الشاعر الحاذق والمبدع، ليكون مميزًا عن سواه، فكلما اتسعت الرؤية، كانت مجالات ابتكار الشعر أكثر عمقًا ودهشة، وأكثر ما يلمس في حضور الرؤية، هي ثقافة النص المكتنز بالإشارات، سواء كانت هذه الإشارات تاريخية أو أدبية أو فكرية. بهذه الكلمات يعرف الشاعر فريد النمر، ابن العوامية شرقي المملكة، الرؤية الشعرية.  يبسّط لنا الصورة بمثال الشاعر المغترب عن وطنه؛ الذي كثيرًا ما تتوجه بوصلة الرؤية الشعرية لديه إلى الوطن المنشأ، والحنين إليه، ووجع الغربة، وشيء من تشظيات الحياة الاجتماعية التي يعاني منها.
أما عن دلالاتها فيقول النمر، الفائز  بجوائز عربية عدة: "تشي الرؤية الشعرية في ذاتها بصناعة المجاز الخصب والعذوبة والانسجام اللفظي والبديهة الشعرية في توليد الصور المعبرة، وهو كون جمالي يتكأ عليه الشعراء المبدعون لإيصال رسالة الشعر، وهذا لا يتأتى دون مكنة شعرية تميز في رؤيتها، وعمق الشاعر المعرفي في اختيار المؤتلف من اللفظ والمختلف منه".  


الرؤية بين المنطلقات والنهايات
يفنّد الشاعر والباحث النمر الخطوط العريضة التي تنطلق فيها الرؤية، والمواضيع التي تتحلق حولها، فالرؤية على حدّ تعبيره، طائر هلامي يتشكل بروح الشاعر الواعي لتجربته وأسئلته الوجودية بين القلق والأرق، فكلما عبر بوجدانه بحر اللغة والهوية والأيدلوجيا والشعر والعولمة والتربية والتاريخ والانتماء والتصوف، هبط على أرخبيله الذي يتغنى به، ودوحته التي يتنفس بها ولها. يضيف النمر : "الطائر الشعري هذا له جناحان فائقا الألوان، متعدد الأصوات، متطور في إذكاء اللحظة الشعرية من خلال مسكه لخيط الحرير الذي يشيء بالقصيدة دون الاكتراث بالحالة الجمعية أو السائد".
فمفهوم الشعر هو مشافهة الدهشة والجمال بمخيال يرفع من كينونة اللغة والمفهوم نحو خلق جديد كاشتعال الماء، يقول النمر ويضيف إنه أسلوب عصري ينتقل عبر مفاهيم الإنسان، وحجم تمسكه بالتطور، والحفاظ على خصوصية الهوية والبيئة المعرفية في آن واحد. لذا تجد هذا الكائن الشعري يتمدد نحو الطفولة والمرأة والحقوق وكثير من الموضوعات التي تربي في الإنسان روح الحب والضوء والخصب ومقت الكراهية والقتل، وكل ما هو حالة شاذة على هذا الكيان الآدمي الفطري.


الرؤية الشعرية والمدارس الشعرية
يتطرق النمر في حديثه إلى المدارس الشعرية، ففي حين تتعدد الأشكال الكتابية الأدبية باختلاف مدارسها الفكرية، لنقف على ثلاثة أشكال شعرية هي "العمودي والحر الحديث والنثر". فبعد تفرد النص العمودي عبر حقبه الزمنية، أتى الشعر الحر برائديه السياب ونازك، ليقول للشعر أن المفاهيم الشعرية تنمو وتتفرع كدوحة عطر، لتثبت هذه التجربة بعد اختمارها، بأنها أصيلة في وجودها، ومتجاوزة في رؤيتها، متسعة لكل أطياف اللغات الإنسانية، ثم ما أن تمت دورتها الزمنية وثبتت جذورها المعرفية بين الحداثة وما بعد الحداثة والبناء والتفكيك النقدي، حتى ظهرت قصيدة النثر في الربع الثاني من القرن العشرين. وأبرز منظريها هما أنسي الحاج وأدونيس والماغوط، وهي وإن كانت محاكاة للمدنية والعصرنة المتقدمة التي نشأت في الغرب وقاد تجربتها "برنار وبودلير"؛ الا أن اللغة العربية أسبغت عليها من الدلالات واللسانيات، ما جعلها تتفوق وتنافس في الحضور، خاصة لمن هضم مرحلة القصيدة العمودية والحرة منها، وهذا ما أحدثته العولمة الشعرية المعاصرة في تجاوز الحدود بين الأقوام.
نظرة فريد النمر نحو الرؤية الشعرية، هي نظرة متلاصقة بوجدان الإنسان، فهي وعي مشترك يعبر عنه الشعراء بسياقات مختلفة، تبحث عن ملاذات علوية، تجعل من الشعر فارعًا في أعلى تجلياته، وهي بناء معرفي لا يقف عند حد في كسبه لمعارف جديدة تخدم المشروع الثقافي والأدبي في أبهى ملامحه، وهي تزامن ثقافي بين تاريخ اللغة وحاضرها المكون للنص.


بين الحرية والعوائق
انطلاقاً من سابق كلامه، يشدد النمر على أهمية الحرية في الكتابة، فهي تعد من أهم مفاتيح النص الشعري، لإشعال الجذوة فيه، نظرًا لتصاهر مكونات الحالة الذهنية والمعرفية، وهذا ما يسميه فريد النمر بــــ"بلاغة العقل"، وتحرك ماكنة الحالة الشعرية القابعة بالوجدان، ويسميه بـــــ"بلاغة الروح" الشاعرة دون ظروف أو قيد، وهو أشبه ما يكون باحتراق ذاتي لأجل إضاءة نص عالي الجودة والدهشة.
لا يغفل الشاعر النمر عن إمكانية اعتبار بعض المتلقّين؛ أن الرؤية الشعرية عائق كبير لفهم المعنى، وهذا ما قد يتفق النمر معهم فيه، ما لم يكن التركيب منسجمًا والانزياح متجانسًا، ولكن: "بمجرد فهم التركيب اللغوي وأوجه الإنزياح، ندرك أن الوصول إلى المعنى هو سهل يسير، وخاصة بعد هذه الفتوحات اللغوية الكبيرة، وعالم التكنولوجيا المعرفية، حيث التذوق الجمالي لابد مصاحبته لرصيد معرفي يدرك السياقات المختلفة من عتبة النص حتى ختامه، متمترسًا بحدس الإيحاء، وحجم خارطة المعنى للمفهوم الشعري، فبين الضبابية والانكشاف هناك مصباح معرفي دقيق".
بهذه الأسطر نقارب الرؤية الشعرية في منطق الشاعر فريد النمر، وضمن خبرته التي طافتِ الخليج  والعالم العربي وتميزت، علّنا نستطيع أن نؤطّر بلا تنظير، ونحدد مع هامش من الحرية المطلوبة اليوم، شعر الحداثة الذي ما سيلبث أن يجاري سرعة تطور هذا العالم، في محاولة لحفظ قداسة الشعر وبالتالي اللغة.