علمٌ وفكر

في ماهيّة التكليف وتوابعها


محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ] ..
... فالتكليف تفعيل من الكلفة أعني المشقّة. وعرفا : إرادة واجب الطاعة شاقّا ابتداء معلما.
وفيه نظر ؛ لأنّ الإرادة سبب التكليف لا عينه ، ولهذا يقال : أراد الله تعالى الطاعة فكلّف بها ؛ ولانتقاضه في عكسه بالتكليف باجتناب المنهيّات فإنّه كراهة لا إرادة ؛ ولأنّه يخرج منه التكليف بالمشتهى طبعاً ، كأكل لحم الهدي ، ونكاح الحليلة ، وما لا مشقّة فيه أصلا كتسبيحة وتحميدة.
وأيضا الإعلام إنّما هو شرط في تكليف واقع لا في مطلق التكليف.
فالأولى أن يقال : التكليف هو بعث عقلي أو سمعي على فعل ، أو كفّ ابتداء للتعريض للثواب.
والكلام إمّا في حسنه ، وهو ظاهر من حدّه ؛ ولأنّ الإنسان مدنيّ بطبعه لا يستقلّ بأمر معاشه ، فلا بدّ من التعاضد بالاجتماع المفضي إلى التنازع فلا بدّ من نبيّ مبعوث بقانون كلّي يعد على طاعته بالثواب ، ويوعد على معصيته بالعقاب ؛ ليحمل النوع على تجشّم المشاقّ ، ولزوم الميثاق ، وذلك ممتنع بدون معرفة الصانع ، وما يثبت له وينفى عنه ، وتعظيمه وإجلاله مؤكّد لذلك.
والطريق إليه التكرار الموجب للتذكار ، بنصب عبادات معهودة في أوقات مخصوصة يذكر فيها الخالق بصفات جلاله وكماله ، والانقياد لسنّته ، فيحصل من ذلك غايات ثلاث :
الأولى : رياضة القوى النفسانيّة ؛ بمنعها عن مقتضى الشهوة والغضب ، وعن الأسباب المثيرة لهما من التخيّل والتوهّم والإحساس ، والفعل المانع عن توجّه النفس الناطقة إلى جناب القدس ومحلّ الأنس.
الثانية : دوام النظر في الأمور العالية المطهّرة عن العوارض المادّيّة والكدورات الحسّيّة ، المؤدّية إلى ملاحظة الملكوت ، ومعاينة الجبروت.
الثالثة : دوام تذكّر إنذار الشارع ، ووعده للمطيع ، ووعيده للعاصي ، المستلزم لإقامة العدل ، ونظام النوع مع زيادة الأجر الجزيل والثواب العظيم.
وإمّا في وجوبه ، فهو واجب على الله تعالى ، بناء على قاعدة الحسن والقبح العقليّين ، وعلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب ؛ لعلمه بقبحه ، وغنائه عنه ؛ لثبوت علمه بجميع المعلومات ، لاستواء نسبة ذاته ، وتساوي الجميع في صحّة المعلوميّة ، واستفادة علمه على الجملة من أحكام الأفعال ، وغنائه من وجوب وجوده مطلقاً قطعاً ؛ للدور والتسلسل لو كان ممكناً.
إذا تمهّد ذلك ، فلو لم يجب التكليف على الله تعالى لزم عدم وجوب الزجر عن القبائح بل كان مغرياً بها. والتالي باطل ؛ لاستحالة فعل القبيح ، والإخلال بالواجب عليه تعالى ، فكذا المقدّم.
ولا تمنع الملازمة بعلم المدح والذمّ ؛ لأنّهما مخصوصان بما يستقلّ العقل بدركه ، لا بباقي السمعيّات.
ومع ذلك فكثير من العقلاء لا يعبأ بهما ، ويفعل بمقتضى الشهوة والغضب فيتحقّق الإغراء بالقبيح حينئذ.
وأمّا المكلّف ، فهو الباعث ، إمّا بخلق العقل الدالّ ، أو بنصب النبيّ المخبر.
وأمّا المكلّف ، فهو الكامل العقل. وتسمية الصبيّ بالمكلّف مجاز.
وحسنه مشروط بأربعة :


الأوّل : ما يتعلّق به ، وهو أمور ثلاثة :
أ : الإعلام به أو التمكين منه.
ب : تقدّمه على الفعل زماناً يمكن المكلّف فيه الاطّلاع عليه.
ج : انتفاء المفسدة فيه.
ومنه يعلم اشتراط نصب اللطف في كلّ فعل أو ترك لا يقع امتثاله إلاّ به ؛ إذ لولاه لزمت المفسدة المنفيّة.


الثاني : الراجع إلى المتعلّق ، وهو ثلاثة أيضاً.
أ : إمكانه ؛ لاستحالة التكليف بالمحال عند العدليّة.
ب : حسنه ؛ لاستحالة التكليف بالقبيح.
ج : رجحانه بحيث يستحقّ به الثواب كفعل الواجب والندب ، وترك الحرام والمكروه.


الثالث : العائد إلى المكلّف تعالى وهو أربعة :
أ : العلم بصفة الفعل ؛ لئلاّ يكلّف بغير المتعلّق.
ب : العلم بقدر المستحقّ عليه من الثواب ؛ حذراً من النقص.
ج : قدرته على إيصاله ؛ ليثق المكلّف بوصوله إليه.
د : امتناع القبيح عليه ؛ لئلاّ يخلّ بالواجب.


الرابع : ما يعود إلى المكلّف ، وهو أمران :
أ : أن يكون قادراً على الفعل ؛ لامتناع التكليف بالمحال.
ب : علمه به أو تمكّنه من العلم كما ذكر.
ولا يشترط إسلامه ؛ لعموم علّة الحسن. والفساد من سوء اختيار الكافر.
ووجوبه مشروط بكمال العقل ، وبعلم ما نصبه الشارع من الأمارات.
ولا يلزم توقّف العقلي على السمع ؛ لأنّه لا يلزم من علمه بالأمارات السمعيّة انحصار علمه ؛ لجواز حصوله بسبب آخر ، ولعلّه إدراكه الأوّليّات والضروريّات ، والاقتدار على التصرّف فيهما لاقتناص النظريّات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد