قرآنيات

تفسير الآية 31 من سورة النور


الشهيد مرتضى المطهري ..
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور/31).
 تتحدث هذه الآية والآية التي سبقتها عن واجب الرجل والمرأة إزاء بعضهما الآخر إضافة إلى مسألة ستر العورة. الآية الأولى موجهة إلى الرجل وفيها نهي عن النظر إلى ما لا يحل له‎، ووجوب ستر العورة أو بمعنى أرفع اجتناب الزنا. إذن فعلى الرجل أن يعف بصره عن النظر الحرام ويحفظ ذاته عن الفحشاء. والآية المتعلقة بالرجال أقصر من الآية المتعلقة بالنساء. والشيء الإضافي الوارد فيها ما هو إلاّ لأجل التأكيد على أن هذا الأمر يضمن خيركم وسعادتكم وإن الله أعلم منكم وعليم بأموركم.
 تحتوي الآية الثانية على أحكام للنساء وفيها نفس الحكمين الواردين في الآية الأولى مع اختلاف الضمائر من مذكرة إلى مؤنثة، أي على المؤمنات غض أبصارهن وحفظ فروجهن. أشير هنا إلى مسألتين بشأن النساء، وهما:
 أولا: قد تتوهم بعض النساء أنّ الرجال فقط لا يحق لهم النظر إلى النساء: "هل لا يستطيعون النظر إليهن مطلقاً، أم النظر بريبة وتلذذ؟ هذا ما سنأتي على ذكره في ما بعد". ويتصورن أن المنع يشمل الرجال، حيث لا يجوز لهم النظر، أو لا يجوز لهم النظر بريبة وتلذذ، وإن المرأة غير ممنوعة من النظر إلى الرجل. في حين أنه لا يوجد أي فرق في ذلك. فإن كان النظر محرماً، فهو محرم على الاثنين، وإذا كان جائزاً، فهو جائز لكليهما. لكن البعض يتصور أن الرجل فقط لا يجوز له النظر بتلذذ، أما المرأة فيجوز لها أن تنظر إليه وتقلبه ببصرها كيف تشاء. كلا، القضية ليست على هذه الشاكلة. القرآن لا يرى أي فرق في النظر بين الرجل والمرأة. طبعاً بعض النساء يدركن هذا الحكم، ولكن لعل الكثير منهن لا يفهمن هذا.
ثانيا: وهذه قضية تعرفها الأكثرية، وربما لا يعرفها البعض القليل وهي التصور الموجود بأن المرأة يجوز لها النظر إلى كل المرأة حتى عورتها، والرجل فقط لا يجوز له النظر إلى عورة رجل آخر. وهذا التصور باطل، فعورة المرأة محرمة على المرأة،وحتى المرأة لا يجوز النظر إلى عورة بنتها، ولا البنت لعورة أمها، ولا الأخت لعورة أختها.
 القرآن يأمر الرجل في هذا المجال ويأمر المرأة بمثله، ويأمر المرأة بمثل ما يأمر به الرجل. إلا أنه جعل للمرأة واجباً آخر لم يجعل للرجل مثله وذلك هو تكليف المرأة بستر نفسها وهذا ما لم يكلف به الرجل. أي أن هذه التكليف للمرأة دون الرجل. وقد عبر القرآن عن ذلك بالقول: "ولا يبدين زينتهن"، طبعاً ليس المقصود من ذلك وسائل الزينة حتى وإن كانت ملقاة جانباً - كالأساور مثلاً - وإنما المقصود وسائل الزينة حينما تكون على بدن المرأة، لأنه يساوى رؤية المرأة ذاتها. وعلى النساء أن لا يبدين زينتهن من غير فرق في ذلك بين الزينة التي يمكن فصلها عن البدن كالأساور والخاتم، أو الأشياء التي تلصق بالبدن كمواد التجميل مثلاً.
المرأة لا يجوز لها إظهار زينتها إلاّ في حالتين: الأولى تتعلق بالزينة ذاتها، أو كما عبر عنها القرآن بالزينة الظاهرة. وسأشير في ما بعد إلى المراد من الزينة الظاهرة. والاستثناء الآخر يخصّ الأفراد من غير الزوج أي أن المرأة يباح لها إظهار زينتها حتى غير الظاهرية أمامهم وهم الآباء والأبناء، وابن الأخ، وابن الأخت، وأبناء الزوج. إضافة إلى أشخاص آخرين مستثنين من هذه القاعدة سأشير إليهم لاحقاً.
وقبل الدخول في تفسير هذه الآية أشير إلى نقطتين لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع، وهما:
الأول: لماذا كلفت المرأة بستر نفسها ولم يكلف الرجل؟ أي لماذا ذكر الستر باعتباره واجباً للمرأة وليس للرجل؟ وسر هذا الأمر وضاح لا لبس فيه، وهو أن مشاعر المرأة والرجل تجاه بعضها ليست متشابهة، ولهما من حيث الخلقة وضع غير متشابه. فالمرأة هي التي تتعرض للهجوم من عين الرجل ويده وجوارحه الأخرى، ولا يتعرض الرجل لمثل هذا الهجوم من المرأة. وجنس الذكور والإناث في عالم الطبيعة كلّه على هذه الشاكلة، ولا يختصّ هذا بالرجل والمرأة. جنس الذكر خلق في عالم الطبيعة كمُستَلم بينما جُعلت الأنثى كمخلوق يتعرض للهجوم من الذكر. وإذا نظرتم إلى جميع الحيوانات تجدون الذكر هو الذي يجري على الدوام وراء الأنثى. هكذا الحال بالنسبة للحمام والدجاج والخيل والحمير والعصافير والأسود والأغنام وغيرها. والأنثى مع أنها تطلب الذكر إلاّ أنها لا تجري وراءه. لهذا السبب نجد في بني الإنسان أن الرجل هو الذي يذهب ويخطب المرأة، الفتى يذهب لخطبة الفتاة، وهذا أمر طبيعي وفطري.
 ظهر في الآونة الأخيرة أشخاص جهلة - أو أريد لهم أن يكونوا جهلة - انبروا للحديث عن المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة - وهم غير مدركين للفارق بين التشابه والتساوي ويتصورون أن الفوارق بين الرجل والمرأة فوارق في الجنس فقط وفي الأعضاء التناسلية، ولا توجد بينهما اختلافات أخرى، ويقولون: ما هذه العادة القبيحة؟ ولماذا يذهب الفتيان دوما لخطبة الفتيات؟
ولابد أن يتغير هذا التقليد من الآن فصاعداً لتذهب الفتيات لخطبة الفتيان! ومثل هذا العمل يعتبر.
 أولاً: محاربة لقانون الخلقة. ولو تم استبدال قانون الخلقة السائد في جميع الحيوانات - من حيث ثنائية الجنس - لأمكن هنا تغيير هذه القاعدة.
 ثانياً: إن هذا العمل قد أدّى بحد ذاته إلى رفع قيمة الأنثى. أي إن الذكر خلق بشكل جعل منه طالباً، ولا بد له من نيل رضا الأنثى، وانطلاقاً من هذه القاعدة فهو يضع نفسه في خدمتها على الدوام. في الكثير من الحيوانات ومنها الإنسان تقع نفقة الأنثى على عاتق الذكر.((تكون هذه الحالة لدى الحيوانات على الأقل خلال فترة حمل الأنثى أو أثناء حضانتها للبيض)). وقد خلق الذكر بشكل ما أن تعلن الأنثى عن استعدادها للقبول به حتى يضع نفسه تحت تصرفها وهذه تعتبر أسساً لحكمة كبرى في عالم الخلقة.
تدخل قضية "المهر" ضمن هذا الإطار أيضاً. أي أن المرأة تظهر نفسها بشكل تقول فيه للرجل: أنك أنت الذي تحتاج إلىّ، وأنا لست بحاجة إليك، والرجل هو الذي ينبغي أن يظهر استعداده لتقديم شيء للمرأة لأجل أن تقول له: "نعم" والقرآن يصور الصداق بأنه نحلة، أي هدية على سبيل التعارف. والذين يتصورون أن المهر ثمن للمرأة مخطئون في تصورهم هذا. القرآن يؤكد أن المهر أو الصداق نحلة، أي هدية. مثلما تقدمون الهدية لشخص لكسب وده لينجز لكم عملاً ما، فأنتم الذين تقدمون له الهدية، وليس هو الذي يقدمها لكم.
 التعبير الذي يستخدمه القرآن هو "الصداق"، أي بمعنى الشيء المقدم كعلامة للصدق ودليل على الإخلاص، وليس بمعنى النزوة أو لأجل الشهوة، بل لأجل الزواج، ومنطلقة الحقيقة وليس المخادعة. وضعية المرأة تختلف في أصل الخلقة عن وضعية الرجل. فالمرأة تتزين لتجتذب إليها الرجل، إلاّ أن الرجل لا يمكنه أبداً اجتذاب المرأة عن طريق الزينة.
 المرأة والزينة، والمرأة والجواهر، موجودان مقرونان مع بعضهما على الدوام، المرأة مخلوق ناعم ورقيق، وكل المخلوقات الأخرى تكون فيها الأنثى هي مظهر الجمال والرقة والزينة، وحينما يراد أن لا تقع فتنة يجب أن يقال لذي الجمال أن لا يظهر نفسه، ولا يقال ذلك لذي الخشونة والقوة، أي يقال لمن لديه القدرة على الاجتذاب أن لا يقود إلى التمهيد لأسباب الضلال والغواية.
 في عالم اليوم هناك اتجاه نحو حالة أخرى. ويمكنني القول صراحة أن هذه الحالة من غير الممكن أن يكتب لها الدوام، وسيجد الساعون إليها أنفسهم في ختام المطاف أنهم يناطحون صخرة وسيضطرون إلى العودة إلى قانون الطبيعة. وذلك هو ما يلاحظ اليوم من جهود تبذلها النساء للظهور بمظهر الرجولة، وما يفعله الرجال والشبان للظهور بمظهر أنثوي، ما هي في الواقع إلاّ نزوات صبيانية يمارسها بنو الإنسان اليوم، ولكنها سريعاً ما ستزول، وهي من الظواهر الخاصة بعصرنا هذا ومصيرها إلى الزوال سريعاً وخاصة عند الفتيان الذين يحاولون التشبه بالنساء في الزي والحركات والزينة، بحيث أن المرء حينما يواجه أحدهم لا يدري أفتىً هو أم فتاة، أو كما يقول البعض: "لابد من أجراء دراسات عميقة وموسعة ليفهم المرء هل هذا فتى أم فتاة؟!" وهذه الظاهرة تتعارض مع قوانين الخلقة وأصول الفطرة وإضراب هذه النزوات الصبيانية الحمقاء كثيرة عند بني البشر لكنها لا تبقى طويلاً.
 إذن فالرجل والمرأة عند الاختلاط مع بعضهما لا يملكان ما يسمى بالحرية المطلقة، أي لا يحق لهما الاتصال مع بعضها كيفما اتفق، والسبب الذي جعل المرأة مكلفة بستر نفسها لا الرجل، وهو ما أشرت إليه آنفاً. هذه مسألة.

أما المسألة الأخرى فهي ما السبب الأساسي لهذا التشريع؟ وما هي ضرورته؟ ولماذا هناك قضية اسمها الأجنبي وغير الأجنبي؟ ولماذا يجب على المرأة ستر نفسها عن الأجنبي؟ وما السر الكامن وراء هذا التشريع وما فائدته؟
 الميزة الأولى لهذا التشريع، نفسية، أي إيجاد السكينة الروحية. ففي كل مجتمع تقوم فيه علاقات المرأة بالرجل على أساس العفاف - في حدود التعاليم الإسلامية التي أشرت إليها ولا تتزين المرأة ولا تتظاهر بزينتها خارج إطار الزواج، ولا تجعل من نفسها أداة لإثارة شهوات الرجال، والرجال أيضاً لا يركضون وراء اللذة خارج حدود العلاقة الزوجية عن طريق العين واليد وما إلى ذلك، تبقى الأرواح والقلوب هادئة مطمئنة. وكل مجتمع تسوده عكس هذه الحالة يعيش في قلق واضطراب نفسي.
 يزعم بعض الأوربيين أن ابتعاد الرجل والمرأة عن بعضهما يسبب لهما اضطراباً نفسيًّا وعقداً روحية. إلاّ أنّ تجربة القرن الماضي أثبتت بكل وضوح بطلان هذا الزعم، إذ كلما اتسعت الحرية في الشؤون الجنسية تتفاقم معها وطأة الإثارة عند الأشخاص، لأن الغريزة الجنسية عند الإنسان (كما هو الحال في عدة غرائز أخرى مثل غريزة حب الجاه، وغريزة طلب العلم، وغريزة العبادة) غير محدودة بسعة جسمية معينة، بل لها استيعاب نفسي واسع.
 الغرائز المحدودة بسعة جسمية معينة مثل غريزة الطعام، فالإنسان قادر على تناول كمية محدودة من الطعام لا يستطيع تجاوزها. ولكن ماذا عن الملكية؟ هل هي مثل الطعام؟ فإذا ملك الإنسان مائة ألف دينار هل يقنع؟ لا، فهو بعدما يملك المائة ألف دينار تتوق روحه للمائتين، وإذا صار لديه مائتي ألف دينار يتعطش للخمسمائة، وإذا صار مليونيراً يطمح مليارديراً. وإن أكثر الناس ثروة في العالم يكون أشدهم تعطشاً للحصول على المزيد منها.
 وماذا عن حب الجاه؟ حب الجاه على نفس الشاكلة أيضاً. قد يطمح الإنسان أن يكون رئيساً لنقابة، ولكن هل إذا أحرز هذا المنصب تمتلئ نفسه ويكتفي؟ لا بل تنبعث في نفسه طموحات جديدة، فيميل مثلاً للحصول على منصب مدير بلدية. ولو أعطى العالم بأسره وقيل له: أنت ملك على كل هذا العالم، تراوده حينذاك هواجس أخرى ويتولد لديه طموح بملكية كرة أرضية أخرى والسيطرة عليها. وهكذا الحال في الغريزة الجنسية عند الإنسان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة