من التاريخ

الفنون عند السومريين

 

ويليام ديورانت .. 
تكاد تكون قصة جلجميش المثل الوحيد الذي نستطيع أن نحكم به على أدب البابليين. أما الفنون الصغرى فإن ما أبقت عليه المصادفات من آثارها يدل على أنهم قد أوتوا قسطاً موفوراً من الإحساس بالجمال، وإن لم يؤتوا روح الإبداع العميقة، وعلى أن هذا الإحساس لم يقض عليه كله انهماكُهم في الأعمال التجارية، وفي الملاذ الجسمية، وفي تقواهم التي أرادوا أن يعرضوا بها هذه الناحية من حياتهم. وإن قطع القرميد التي طليت وصقلت بأعظم عناية، والحجارة البراقة، وأدوات البرنز الدقيقة الصنع، والحديد والفضة، والذهب، والتطريز الجميل، والسجاجيد الوثيرة، والثياب ذات الصبغات الجميلة، والأقمشة المزركشة المعلقة على الجدران، والمناضد المرتكزة على القواعد والسرر والكراسي، إن هذه المخلفات كلها لتخلع على الحضارة البابلية ثوباً قشيباً من الجمال والرونق وإن لم تخلع عليها كثيراً من القيمة أو الجلال. والحلي التي عثر عليها كثيرة، ولكنها تنقصها الدقة الفنية التي نشاهدها في حلي المصريين الأقدمين؛ وكان أكبر ما يقصد بها أن تعرض المعدن الأصفر أكثر مما تعرض الفن الجميل، ويظن صانعوها أن من جمال الفن أن تصنع تماثيل كاملة من الذهب. وكان لدى البابليين آلات طرب كثيرة- نادى، وقانون، وقيثار، ومزامير القرب، وطبول وقرون، ومزامير من الغاب، وأبواق، وصنوج، ودفوف. وكان لهم فرق موسيقية ومغنون يعزفون ويغنون فرادى ومجتمعين في الهياكل والقصور وفي حفلات الأثرياء.
وكان التصوير بالألوان من الفنون الثانوية عند البابليين، يستخدمونه في تزيين الجدران والتماثيل، ولم يحاولوا قط أن يجعلوا منه فناً مستقلاً بذاته. ولسنا نجد في خرائب البابليين تلك النقوش الملونة التي تزدان بها قبور المصريين، أو تلك المظلات التي تجمل قصور كريت. كذلك لم يرق فن النحت عند البابليين، ويلوح أن هذا الفن قد جمد وقضي عليه قبل أن يكتمل نمو ما ورثته بابل من القواعد التي جرى بها العرف عند السومريين، وأرغمها الكهنة على اتباعها والجري على سننها: فكل الوجوه المرسومة وجه واحد، ولكل الملوك أجسام ممتلئة قوية العضلات، والأسرى كلهم كأن تماثيلهم صبت في قالب واحد. ولم يبق من تماثيل البابليين إلا القليل، ولم يكن ثمة ما يوجب هذه القلة. والنقوش الغائرة أحسن حالاً من التماثيل ولكنها هي الأخرى فجة خشنة يتحكم فيها العرف والتقاليد؛ وثمة فارق كبير بينها وبين نقوش المصريين القوية التي حفروها من قبلهم بألف عام. ولا تصل هذه النقوش إلى غايتها إلا حين تمثل الحيوانات وهي هادئة ساكنة مهيبة في أرباضها الطبيعية، أو مهتاجة أثارتها قسوة الإنسان.
وليس في وسعنا الآن أن نحكم حكماً عادلاً على فن العمارة البابلي لأننا لا نكاد نجد شيئاً من مخلفات هذا الفن يرتفع فوق الرمال أكثر من بضع أقدام، وليس بين آثارهم صور لعمائرهم منحوتة أو مرسومة، يستدل منها بوضوح على أشكال القصور والهياكل وهندسة بنائها. وكانت البيوت تبنى من الطين، أو من الآجر إن كانت للأغنياء منهم، وقلما كانت لها نوافذ، ولم تكن أبوابها تفتح على الشوارع الضيقة بل كانت تفتح على فناء داخلي مظلل من الشمس. وتصف الأخبار المتواترة بيوت الطبقات الراقية بأنها مكونة من ثلاث طبقات أو أربع. أما الهياكل فكانت تقوم على قواعد في مستوى سقف البيوت التي كانت تلك الهياكل تسيطر على حياة أهلها. وكان الهيكل في الغالب بناء ضخماً من القرميد مشيداً كالبيوت حول فناء تقام فيه معظم الحفلات الدينية.
ويقوم إلى جوار المعبد في أغلب الحالات برج عال يسمى بلغتهم زاجورات (ومعناها "مكان عال") يتكون من طبقات مكعبة الشكل بعضها فوق بعض، وتتناقص كلما علت، ويحيط بها سلم من خارجها. وكانت تستخدم إما في الأغراض الدينية- فقد كان مزاراً عالياً للإله صاحب الهيكل- وإما في أغراض فلكية بأن تكون مرصداً يرقب منه الكهنة الكواكب التي تكشف عن كل شيء في حياة الناس.
وكان الزاجورات العظيم الذي في برسبا يسمى "مراحل الأفلاك السبع"، وكانت كل طبقة من طبقاته مخصصة لكوكب من الكواكب السبعة المعروفة عند البابليين، وملونة بلون يرمز إلى هذا الكوكب. فكانت الطبقة السفلى سوداء اللون كلون زحل، والتي تليها بيضاء كلون الزهرة، والتي فوقها أرجوانية للمشتري؛ والرابعة زرقاء لعطارد؛ والخامسة قرمزية للمريخ؛ والسادسة فضية للقمر؛ والسابعة ذهبية للشمس. وكانت هذه الأفلاك والكواكب تشير إلى أيام الأسبوع السبعة مبتدئة من أعلاها.

ولم يكن في هذه المباني- على قدر ما نستطيع أن نتبين من منظرها- شيء كثير من الذوق الفني، فقد كانت كلها كتلاً ضخمة من خطوط مستقيمة لا تتطاول إلى شيء أكثر من مجد الضخامة، وقد نجد في بقاع متفرقة بين الخرائب القديمة عقوداً وأقواساً، وهي أشكال أخذت عن سومر واستخدمت في غير عناية ومن غير علم بمصيرها. وكان ما في المباني من زينات في داخلها وخارجها يكاد يقتصر على طلاء بعض أوجه الآجر، بعد صقلها، بالألوان الصفراء، والزرقاء، والبيضاء، والحمراء، وإقامة صور من القرميد للحيوان والنبات في مواضع قليلة من الجدران. وهذا "التزجيج" ، الذي لم يكن يقصد به تجميل البناء فحسب بل كان يقصد به أيضاً وقاية المباني من الشمس والمطر، قديم يرجع على الأقل إلى عهد نارام- سِنْ، وقد ظل شائعاً في أرض النهرين إلى أيام الفتح الإسلامي. ولهذا السبب أضحت صناعة الخزف أخص فنون الشرق الأدنى القديم، وإن لم تنتج من الأواني الخزفية ما هو جدير بالذكر. لكن فن العمارة البابلي ظل على الرغم من هذا العون فناً ثقيلاً خالياً من الجمال والأناقة، قضت عليه المواد التي استخدمت فيه ألا يرقى إلى ما فوق الدرجة الوسطى. 
وما أسرع ما كانت الهياكل تقوم من الطين الذي حوَّله العمال المسخرون إلى لبنات وملاط، ولم تكن ثمة حاجة إلى قرون طوال كل تمتلئ بها البلاد كما اجتاحت المباني الكبيرة الباقية في مصر وفي أوربا العصور الوسطى، ولكنها تهدمت بنفس السرعة التي شيدت بها أو بما يقرب منها، ولم يمض عليها إلا خمسون عاماً حتى عادت كما بدأت ترابًا. وكان رخص اللبن والآجر في حد ذاته سبباً في فساد الهندسة البابلية. لقد كان يسهل أن تقام من هذه المواد المباني الضخمة، أما الجمال فكان من الصعب أن ينال باستخدامها. ذلك أن الآجر لا يعين على السمو والجلال، والسمو والجلال هما روح العمارة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة